حديث الصباح: دمقرطة القطب العمومي والاحتماء بالهوية

ما يوضح الجدل حول دفاتر التحملات التدافع بين مشروع الإصلاح وإرادة اللوبي الفرنكفوني في إجهاضه كشف النقاش الذي ثار حول دفاتر التحملات المؤطرة للقطب العمومي جانبا من الآليات التي تدار بها السياسة بين النخب في المغرب، كما أتاح الفرصة لفهم طبيعة العلاقة القائمة بين مسار الدمقرطة وتحريك قضايا الهوية لإجهاض أو تعطيل إرادة الإصلاح.قد يتبادر إلى الذهن أن أول من ينصرف إلى الدفع بقضية الهوية في النقاش العمومي هم الإسلاميون، لكن في الحالة التي نناقشها اليوم، ربما انقلبت المعادلة، فصار الاحتماء بالهوية إحدى آليات التدافع التي يلجأ إليها خصومهم من أجل تعطيل مسار الإصلاح الديمقراطي. انطلق مسار الإصلاح من الإطار القانوني، أي وضع دفاتر تحملات تؤطر الممارسة الإعلامية في القطب العمومي، وهي عملية مسوغة قانونيا، إذ ينص الفصل 49 من القانون رقم 03-77 المتعلق بالاتصال السمعي والبصري، والذي ينص على أن الحكومة تقوم بإعداد دفاتر التحملات وتصادق عليها الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري. وتعزز المسار بالمقاربة التشاركية التي تدمج كل المتدخلين والمعنيين من المهنيين في عملية إنتاج وثيقة تضبط الممارسة الإعلامية العمومية، تلك المقاربة التي اعتمدت تلقي المذكرات وعقد اللقاءات مع المعنيين ومحاورتهم من أجل التوصل إلى وثيقة تحاول أن تحقق أوسع قدر من المقترحات المطروحة في نفس توافقي ديمقراطي. والواقع أن هذه العملية تمت بجميع مراحلها في نفس ديمقراطي، وأنتجت المقاربة التشاركية الوثيقة التي عرضت في نسختها النهائية على كافة المعنيين، وتمت الملاحظة عليها، وأدخلت التعديلات الضرورية عليها استجابة لمقترحات المعنيين، ولم يبق، بعد هذا المسار الطويل الذي استغرق ثلاثة أشهر من العمل، إلا الإعلان عن المشروع. المشكلة أنه لما انتهت العملية الديمقراطية إلى الصيغة التي انتهت إليها، يحدث النكوص من داخل بعض المؤسسات التي كانت طرفا في إنتاج هذه الوثيقة، ويتم الاحتجاج أو الاحتماء بالهوية من أجل الطعن في دفتر التحملات! لقد كان مفاجئا للرأي العام أن يحتج السيد سليم الشيخ، مدير القناة الثانية، على دفتر التحملات، ويزعم أن القناة الثانية لم تستشر في إعداده، وأن وزارة الاتصال تلقت أوامر تريد أن تفرضها على القناة الثانية، وأن هذه الدفاتر تستهدف هوية القناة وتحاول طمسها وتستهدف التعددية اللغوية والانفتاح! كان المفروض أن يتم التعبير عن هذه المواقف في إبانها، وضمن الأطر المؤسساتية، ولو تم التعبير عن هذا الموقف مبكرا، لكان هذا هو الموقف الأخلاقي المسؤول الذي لا يمكن أن يلام عليه. الذي حدث أن القناة الثانية حضرت إلى لقاء تم فيه سماع التعديلات على النسخة النهائية، ولم يصدر عنها أي موقف يمكن أن يحسب على الاحتجاج أو الامتعاض من بعض مواد دفتر التحملات. وحتى الخرجات الإعلامية لمدير القناة لم توضح بالتحديد العناصر التي تعترض عليها القناة الثانية، فتارة يتم انتقاد المقاربة التي اعتمدتها الوزارة، وتتهم بإقصاء المهنيين والأطر والكفاءات الذين تحظى بهم القناة الثانية، وتارة ينتقد على هذه الدفاتر التدخل في كل شيء في البرمجة والتوقيت واستضافة الأشخاص، وتارة أخرى يتم الدفع بقضية الخوف على مستقبل القناة، من أن يضيع الرصيد الذي قدمته خلال 24 سنة، والخوف على هويتها من الطمس، واستهداف التعددية اللغوية والانفتاح... لن ننشغل في هذا المقال كثيرا بالرد على هذه الدفوعات، فالحوار الذي أجراه أحد المواقع الإلكترونية مع المدير العام للقطب العمومي السيد فيصل العرايشي كفانا هذه المؤونة. فقد أشار السيد العرايشي في حواره إلى أن وضع دفاتر التحملات من صلاحية الحكومة، بعد أن توافق عليها الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري تماما كما هو النص القانوني، وأكد أن وزارة الاتصال اعتمدت المقاربة التشاركية، وأن صياغة دفتر التحملات تمت بعد نقاش مع المهنيين الذين قدموا مقترحات تم الأخذ في بعض الأحيان بحوالي 85 في المائة منها. بل إنه ذهب إلى أكثر من ذلك، واعتبر أن على المهنيين الالتزام بدفاتر التحملات ما دامت لا تتعارض مع الدستور، وأشار إلى أن هذه الدفاتر يمكن أن تطبق. الانتقاد الوحيد الذي كان للسيد المدير العام للقطب العمومي هو حول قضية التطبيق في حالة وجود إكراهات تعجز المهنيين عن الالتزام بمواد دفتر التحملات. ومع أن هذا الأمر يقتضي نقاشا، ويفترض وجود ضوابط تمنع التذرع بحكاية الإكراهات مبررا لتعطيل دفتر التحملات، فإن هذا الموقف على كل حال، يصنف ضمن خانة الشرعية وقبول نتائج العملية الديمقراطية التي تم انتهاجها لإخراج دفاتر التحملات. الاستفادة التي يمكن تسجيلها في تصريحات السيد المدير العام للقطب العمومي، هو أنه قدم المعطيات التي توضح حقيقة ما جرى، ووضع النقاش في إطاره الصحيح. المفروض أن تتوضح المشكلة بشكل صحيح، هل هي في قضية الهوية وما يستتبعها من قضية استهداف التعددية اللغوية والانفتاح؟ أم هي في البعد القانوني، أي هل يحق للحكومة أن تقوم بإعداد دفتر التحملات؟ وهل يمكن لدفتر التحملات أن يؤطر بعض التفاصيل في الممارسة الإعلامية للقطب العمومي، ومن ذلك البرمجة والتوقيت؟ أم أن المشكلة تتجاوز هذين البعدين، وتعكس صراع نخبة من أجل تحصين مواقعها بكل الأدوات، ولو كانت خارج الأطر الدستورية والقانونية؟ فعلى المستوى الأول، هناك آلية دستورية يمكن أن تحل المشكلة، فالدستور يتيح إمكانية الإحالة على المحكمة الدستورية للنظر في مدى دستورية القوانين، وفي هذا الصدد، إذا كان الاعتراض قائما على هذه الدفاتر، من حيث أنها تستهدف الهوية والتعددية اللغوية والانفتاح المنصوص عليها دستوريا، فالجهة التي يمكن أن تحسم في الأمر واضحة، والتدافع محسوم نتيجته بقرار المحكمة الدستورية. أما على المستوى الثاني، فهناك من جهة النصوص القانونية التي توضح صلاحيات الحكومة في إعداد دفاتر التحملات، ولدينا أيضا التجربة السابقة التي توضح تدخل هذه الدفاتر في التوقيت، وفي البرمجة وغير ذلك من التفاصيل، والغريب ألا أحد احتج على هذه الدفاتر في المرحلة السابقة، ولدينا أيضا الخبرة الدولية في الموضوع، خاصة الخبرة الفرنسية التي غالبا ما تتخذها بعض الجهات مرجعية للاستشهاد والاحتجاج. والمفارقة أن وزارة الاتصال استحضرت أساسا في إعداد هذه الدفاتر هذه الخبرة، إذ أكدت أن دفاتر التحملات أُعدت بناء على دراسات دولية مقارنة لدفاتر التحملات، ومن ذلك دفاتر التحملات 2009 للقنوات العمومية الفرنسية، والتي تحدد مقتضيات دقيقة للالتزامات على مستوى باقة البرامج. المستوى الثالث، يتعلق بالبعد السياسي في الموضوع، وهو ما يوضح الجدل حول دفاتر التحملات الصورة الواضحة التي انتهى إليها التدافع بين مشروع الإصلاح وإرادة اللوبي الفرنكفوني في إجهاضه، إذ بعد الفشل في الحسم ضمن الأطر الديمقراطية، تمت محاولة الضغط من خارجها، عبر الاحتماء بقضية الهوية لتحريك فعاليات المجتمع المدني للضغط على الحكومة للإبقاء على المصالح الفرنكفونية غير المشروعة قائمة وعدم المس بها. بقلم: بلال التليدي, باحث

حديث الصباح: دمقرطة القطب العمومي والاحتماء بالهوية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اضريس يمسك ملف تنقيلات الولاة والعمال

إيقاف أمنيين وفروا الحماية لبارونات المخدرات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات