مدرسة القيروان… “نهاية سعيدة”

المعلمة التي احتلها منكوبو فيضانات درب السلطان تتحول إلى مركز للمعاقين وحده منظر الجرافات وهي تشرئب بأذرعها نحو ما تبقى من أسوار مدرسة القيروان العاتية، لتجذبها نحو الأرض مخلفة غبار كثيفا غطى المكان، كان كافيا ليحرك مشاعر العابرين والمقيمين بالقرب من هذه المعلمة التي تعد واحدة من أقدم المدارس بدرب السلطان بالبيضاء، قبل أن تصير أثرا بعد عين. "يا حسرة تاريخ على قدو مشى فرمشة عين بحال إيلا ما عمرها كانت" هكذا علق بائع للمتلاشيات اتخذ من ركن مقابل للمدرسة مقرا ل"فرّاشته" التي يعرض عليها سلعته، قبل أن يردف قائلا "صعيب شي بناية عقلو عليها أجيال، تجي نهار ما يطلعش عليها الصباح حتى تلقاها مشات".إلى جانب هذا البائع وأمامه عشرات البائعين والبائعات من أصحاب "الفرّاشات" عند تقاطع امتداد شارع مودي بوكيتا وزنقة السراغنة المفضية إلى الساحة الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه.منذ سنوات تنيف على العشرين، صار مشهد مدرسة القيروان أو "كريط" كما يلقبها أبناء درب السلطان، الغارقة في بؤسها وعزلتها مستسلمة لقدر الإهمال المقصود الذي طالها، مألوفا لدى العابرين من قربها أو المقيمين من سكان وتجار قارّين أو موسميين، بعضهم يتنهد حسرة على الماضي التليد لهذه المؤسسة التعليمية التي تدرج فيها العديد من مشاهير درب السلطان، في ما يعتبر البعض الآخر أن ما حدث لهذه المؤسسة ينطبق على مؤسسات تعليمية عمومية أخرى تعيش الإهمال وتتربص بها وحوش العقار.مدرسة القيروان التي تركت لمصيرها طيلة هذه السنوات، حتى صارت مرتعا ومأوى للمتشردين ومصدر إزعاج للسكان المجاورين، قبل أن يتقرر تحديد مصيرها، نهاية يونيو الماضي، حين دشن بها الملك محمد السادس "المركز الوطني محمد السادس للأشخاص المعاقين" الذي سيبنى على أنقاض البناية المتهالكة التي نالت منها السنوات، واضعا بذلك حدا لتحرشات مافيات العقار التي كانت تتربص بالوعاء العقاري الذي توجد عليه المدرسة التي رأت النور نهاية أربعينات القرن الماضي.خلال اللحظة التي تقررت فيها الزيارة الملكية، تغيرت معالم الفضاءات المحيطة بالمدرسة التي صارت في السنوات الأخيرة أشبه بمطرح للأزبال ومأوى للمتشردين، ونبت الورد فجأة وسط سوق "الذبان"، وطليت واجهات البنايات المحيطة، وتمت تهيئة الساحة التي احتضنت الحفل الرسمي لتدشين المشروع الذي تنفس له سكان المنطقة الصعداء، لأنه حال دون استنبات غابة اسمنتية أخرى تقتل كل روح للحياة في هذا المجال الذي بدأ يتخاصم مع تاريخه وماضيه."إن كانت مدرسة القيروان قد تم تحويلها إلى مركز للأشخاص المعاقين، فذلك من حسن حظها، المشكل في بقية المدارس التعليمية الموجودة في مجال درب السلطان، والمهددة بالإغلاق في أي لحظة، بالنظر إلى الإهمال الذي توجد عليه، والظروف التي يدرس فيها التلاميذ حتى لا يتكرر سيناريو ما وقع لتلك المدرسة حتى وصلت إلى الحالة المزرية التي كانت عليها وعجلت باجتثاتها" يقول أحد سكان المنطقة. ويقدم المتحدث نفسه أمثلة على مؤسسات تعليمية مجاورة مثل إعدادية مريم الفهرية ومدرسة للاحسناء وإعدادية الإمام علي ومدرسة المنصور الذهبي ومدرسة معاوية بن أبي سفيان ومدرسة الحجاج، لا يستبعد تعرضها للمصير نفسه لمدرسة القيروان، مشيرا إلى أن هناك ما يشبه سياسة تنفر الناس من المدارس العمومية بإهمالها، ودفعهم إلى إلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة، ثم الاستفادة من الوعاء العقاري الذي كان يحتضن تلك المدارس. بداية تدهور معلمة ... حكاية تدهور مدرسة القيروان، أو "كريط" نسبة إلى اسم جزيرة "كريت" اليونانية الذي كان يحمله شارع مودي بوكيتا في عهد الحماية الفرنسية، بدأت منذ اللحظة التي قررت فيها السلطات المحلية بعمالة الفداء، نقل ضحايا فيضانات درب السلطان خلال منتصف التسعينات.المدرسة التي عاشت المجد طيلة عقود امتدت منذ نهاية الأربعينات إلى الفترة المذكورة، وجدت نفسها تخلي مرافقها الإدارية وأقسامها، لاستقبال منكوبين فرضت عليهم الأمطار مبارحة منازلهم التي تهدمت، وفرض عليهم تلكؤ السلطات المحلية في إيجاد حلول مستعجلة لمشاكلهم، المكوث سنوات بأقسام هذه المؤسسة التعليمية التي توقف بها التدريس منذ ترحيلهم إليها، دون أن يعود إليها حتى بعد مغادرتهم إياها.البناية بطوابقها الثلاثة المشكلة وفق تشكيلة هندسية فرنسية، شكلت بعد إخلائها من التلاميذ ثم السكان، مكانا مغريا للمتشردين الذين احتلوها، وجعلوها مجالا مشاعا بينهم، يبيتون فيها ويتسافدون، ويوقدون النيران خلال ليالي الشتاء القارسة، وهو ما كان يزعج السكان المجاورين الذي كثيرا ما دخلت عليهم أدخنة الأزبال التي يتخذون منها المتشردون وقودا، عبر النوافذ، وهو ما جعلهم يتمنون زوال هذا الوضع حتى ولو أدى الأمر إلى هدم هذه البناية، رغم رمزيتها في ذاكرة الكثيرين منهم، سيما أنهم استغربوا الطريقة التي أهملت بها.عزيز المجدوب بلمليح وسليم ومفتاح مروا من هنا يعد الإعلامي المخضرم عمر سليم واحدا من الأسماء التي عايشت مجد مدرسة القيروان، إذ كان والده مديرا لهذه المؤسسة في الفترة ما بين 1959 و1984.ويقول سليم في حديث مع "الصباح" "أحزنني كثيرا المصير الذي آلت إليه المدرسة، التي عايشت فيها قسما كبيرا من طفولتي، رغم أنني لم أدرس بها سوى يوم واحد لأنتقل بعدها إلى مدرسة أخرى، لكن بحكم إقامة الأسرة في السكن الوظيفي بها، والذي كان عبارة عن فيلا أنيقة على الطراز الفرنسي، محاطة بعرصة غنّاء، كنت أقضي بها وقتا طويلا".ويضيف "كانت تعد من أكبر المدارس بمنطقة درب السلطان تضم 32 قسما و64 معلما يدرسون أزيد من ثلاثة آلاف تلميذ، كثيرون منهم صاروا مشاهير وناجحين في مجالاتهم، منهم الراحلة رجاء بلمليح والصحافي نور الدين مفتاح وآخرون".ويسترسل الوجه التلفزيوني السابق على القناة الثانية قائلا "الدراسة في مدرسة "القيروان" كانت نوعا من البرستيج، خاصة أن معلمين فرنسيين ومن جنسيات أخرى درّسوا فيها، كما كانت تتميز بهندستها البديعة المشيدة وفق إحداثيات علمية تجعلها تتكيف مع الظروف المناخية وحركة الشمس، باختصار نهاية مدرسة من هذا القبيل خسارة حقيقية للذاكرة البيضاوية".

مدرسة القيروان… “نهاية سعيدة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أزيد من مليوني مشاهدة لـ "ولي ليا"

توزيع عشرة آلاف كيس إيكولوجي بسطات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات