خطري والبصري وأرسلان… شخصيات الزمن الجميل

انقضى «الزمن الجميل» للنكتة السياسية بوفاة روادها وأبطالها وملهميها الكبار، أمثال خطري ولد سعيد الجماني وأرسلان الجديدي ومحمد أوفقير وإدريس البصري الذي حيكت حول جبروته الأمني ونزعته السلطوية مستملحات تبطن خوفا دفينا من قوته في عهد الراحل الحسن الثاني. تقول النكتة إن إدريس البصري ركن سيارته قرب متجر كبير بالرباط ودخل للتبضع، وحين فرغ وغادر، اكتشف أن سيارته اختفت من مكانها، فقامت الدنيا ولم تعقد بحثا عنها، واستنفرت أجهزة الأمن عناصرها وجندت الادارة الترابية أعوانها وأطرها للوصول في أقرب وقت إلى السارق. في هذه اللحظة، انتبه البصري إلى أنه ركن سيارته في الجهة المقابلة للمتجر، ونسي إخبار رجاله بذلك، ليعيد الاتصال بهم بتوقيف حملة البحث، لكن أطره في الداخلية طلبوا منه إفتاءهم في مئات الأشخاص المعتقلين الذين اعترفوا جميعهم أنهم من سرقوا سيارة الوزير. إنه دور النكتة السياسية التي تحول حقيقة الجبروت والاستبداد والتسلط إلى لغة ناعمة مثيرة للضحك وحكايات تروى في المجالس وبين يدي الحاكمين أنفسهم الذين لا يترددون في طلب «جديد» النكت، أو نكتة اليوم. ولم ينتج المغرب، منذ سنوات، «بروفايلا» بمواصفات خاصة يحمل على عاتقه تمرير الرسائل والرموز والإشارات السياسية في شكل نكت وطرائف ومواقف تثير إعجاب المرسل والمرسل إليه على حد سواء دون أن يشعر أي أحد أنه متضرر من ذلك. وتوارت النكتة السياسية إلى الوراء، بسبب اتساع مساحة التعبير وحرية الرأي، والانفتاح الكبير على وسائل الإعلام وظهور وسائط جديدة لتمرير الرسائل والإشارات إلى الحاكمين، وأحيانا بشكل مباشر، أو فج في مرات أخرى. ولهذا لم يعد المغاربة في حاجة إلى شخصيات غرائبية للركوب عليها، أو الاختباء وراءها. في أواسط السبعينات، صنع المغاربة، ومبدعو النكتة على الخصوص، شخصية خطري ولد سعيد الجماني، الشخصية الصحراوية الشهيرة التي لعبت أدوارا كبيرة في قلب معادلة الصراع المغربي الاسباني، في عهد فرانكو القوي، حول الصحراء المغربية. وكان لافتا بروز شخصية «غريبة» على الساحة السياسية آنذاك في عز سنوات الرصاص وتضييق الخناق على القول السياسي المباشر، إذ التقط صناع النكتة خطري ولد سعيد الجماني وحولوه إلى بطل تنسج على لسانه عدد من الطرائف وترسل عبره عدد من الرموز والإشارات إلى الحاكمين، الذين لم يعدموا الذكاء لالتقاطها والتفاعل معها والاستجابة إلى عدد من المطالب المضمنة فيها. وكانت أولى النكت البسيطة، لكن العميقة، التي تداولها المخيال الشعبي حول خطري ولد سعيد الجماني، حين التقى به الملك الحسن الثاني، وقرر توشيحه ومكافأته على الدور الذي قام به في البرلمان الإسباني لصالح القضية الوطنية، فنزع الملك برنوسه (سلهام) ووضعه فوق كتفي المحتفى به الذي لم يكن من «العاكزين»، فانحنى على الحسن الثاني وهمس له «واش ما كاينش شي حويجات لدراري». وتعمد سياق النكتة تغييب الشخصية الحقيقية لخطري ولد سعيد الجماني الذي كان من الشخصيات المؤثرة في الأقاليم الجنوبية وكان يحسب لها ألف حساب سواء من قبل المغرب، أو اسبانيا التي تحسرت حين أعلن ابن واد نون ولاءه للمغرب وانحيازه إلى الوحدة الترابية المغربية. وجعلت النكتة من خطري ولد سعيد الجماني رجلا أبله دون ذكاء تقريبا مقابل الذكاء الخارق للحسن الثاني الذي كان البطل الثاني في جميع النكت التي حيكت حوله، علما أن الرجل كان يتلقى مثل غيره من المغاربة هذه الطرائف وكان يضحك عليها، دون أن تغيظه، معتبرا ذلك ضريبة للشهرة وقربه من الدائرة القريبة للحكم بالمغرب. بعد استهلاك خطري ولد سعيد الجماني، بحث «النكاتون» عن شخصيات ظريفة أخرى لنسج مستملحات سياسية أخرى، فعثروا على شخصية أخرى بمواصفات أخرى، مثل أرسلان الجديدي الذي خطب مرة في جمع غفير من المواطنين بالقول «لقد أرسلني جلالة الملك»، وما إن سمعه خطري ولد سعيد الجماني، حتى قال في جمع بالصحراء «لقد جمجمني جلالة الملك»، معتقدا أن أرسلني نسبة لأرسلان. كان الملك الحسن الثاني بطلا أيضا لعدد من النكت السياسية، خصوصا في فترات القمع السياسي وسنوات الرصاص، إذ كان الحديث المباشر في السياسة يعادل زنزانة باردة في أقبية درب مولاي الشريف، أو اغبيلة، أو العادر الفلاحي. يوسف الساكت

خطري والبصري وأرسلان… شخصيات الزمن الجميل

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

فكاهيون يستوحون أعمالهم من الحقل السياسي

النكتة هي التصورات المكبوتة والممنوعة

مقالات ذات صلة