البيضاء...التقييم العسير ساجد: البيضاء تغيرت خلال 10 سنوات < متهمون من قبل خصومكم بالتحرك والعمل الجدي، مباشرة بعد الخطاب الملكي لأكتوبر 2013؟ < في البداية، يجب أن نتذكر جميعا، أنه حين انتخبت عمدة للدار البيضاء سنة 2003، في أول تجربة في إطار وحدة المدينة، وجدت أمامي مجموعة من الإشكاليات الكبرى والمعقدة التي تراكمت خلال العقود الماضية. من أهم هذه الإشكالات، وجود خارطة جماعية مشتتة من خلال 27 جماعة حضرية منفصلة عن بعضها البعض، ولم تكن المجموعة الحضرية تتوفر على رؤية شمولية واضحة لمعالجة كل المشاكل والإكراهات التي كانت تقف في وجه النهوض بالعاصمة الاقتصادية، سواء في ما يتعلق بالمجال الحضري، إذ لم تكن في الفترة السابقة أي رؤية، أو منظور واضح لما يجب أن يكون عليه المجال الحضري وفق المعايير المعمول بها دوليا، وسواء في ما يتعلق بالتحكم في التوسع العمراني والنقل والطرق والتجهيزات الأساسية والإنشاءات العمومية. وأوضح أن من أهم أسباب ما عاشته الدار البيضاء من تعقيدات ومشاكل عمرانية وبيئية وتنموية وهيكلية، كان راجعا إلى عدم إعطاء الحكومة الاهتمام المطلوب لهذه المدينة، حيث ظلت فعاليات المدينة تعمل بمفردها والدولة لا تتدخل إلا من خلال القطاعات الحكومية، ما أدى في النهاية إلى بروز تناقضات عديدة، دفعت في آخر المطاف إلى اعتماد نظام وحدة المدينة بهدف تحقيق التوازن المطلوب. وينبغي أن أشير هنا، إلى أن عددا بلا حصر من الجماعات السابقة، إبان تلك الفترة، كانت عاجزة عن أداء رواتب موظفيها. < اعتماد نظام وحدة المدينة لم يمنع، أيضا، من بروز مشاكل جديدة؟ < بالفعل، وشكلت تحديا لمجلس المدينة خاصة على مستوى الهيكلة الإدارية القديمة غير المساعدة على الانطلاق والعمل، واسترداد ممتلكات الجماعات السابقة ، إذ وجد المجلس مشاكل مع الإدارات المختلفة، وتم انتظار عشر سنوات للوصول إلى حلول لهذه الإشكالية، بفضل الخطاب الملكي في 11 أكتوبر 2013 الذي كان بمثابة تنبيه وتحفيز لمسيري المدينة ومسؤوليها لإعادة النظر في عدد من الأولويات وتجويد الإستراتيجيات والبرامج الموجودة لفائدة السكان. وأستطيع أن أقول، اليوم، إن ما أنجز خلال عشر سنوات الماضية يمكن وصفه بلا تردد بالإيجابي، بالنظر إلى حجم الأوراش والمشاريع المهيكلة التي أنجزت أو في طريقها إلى الإنجاز، خصوصا في ما يتعلق بتحسين إطار عيش السكان، وإصلاح قطاع النقل والتنقلات الذي كان يعاني اختلالات ومشاكل كبيرة، عبر مد حوالي 31 كيلومترا من الطرامواي يخترق جميع مفاصل المدينة ويقرب مرافقها الأساسية من المواطنين، ويحقق الانسجام والتماسك الاجتماعي.ومن المقرر أن يعزز هذا المجهود، بأربعة خطوط جديدة بمسافة إجمالية تصل إلى 80 كيلومترا ستربط الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية بوسط ومحيط المدينة. إضافة إلى ذلك، نجحت المدينة في ظرف عشر سنوات (2004 - 2014) في القضاء على أكثر من 50 في المائة (حوالي 50 ألف وحدة) من الأحياء السكنية العشوائية وتمكين قاطنيها من سكن لائق في عدد من مناطق وضواحي المدينة، أما المجموعات السكنية المتبقية فهي قيد الإنجاز، بعد حصر غلافها التمويلي وعدد المستفيدين والوعاءات العقارية الخاصة بها. الحديث موصول أيضا عن مشروع من الحجم الكبير يتعلق بمحطة التصفية بالشريط الممتد من ميناء البيضاء إلى منطقة زناتة، وهو مشروع مهيكل كبير انتظر إنجازه عدة سنوات، كما هو الشأن بالنسبة إلى مشروع إنقاذ المدينة من فيضانات وادي بوسكورة، ومد قناة ضخمة تحت الأرض من ليساسفة إلى المنطقة القريبة من سيدي عبد الرحمان، دون الحديث طبعا عن المنشآت الكبرى للطرق والبنيات التحتية والأنفاق والطرقات لتخفيف أزمة النقل والجولان. < هذا الحجم الكبير من المشاريع يتطلب تمويلات ضخمة، كيف تدبرون هذا الموضوع في ظل الوضعية المالية لمدينة لا تتجاوز مداخيلها، في أحسن الأحوال، 305 ملايير سنتيم؟ < فعلا، إشكالية التمويل ومشاكله دائما مطروحة، لكن هناك حلولا في نهاية المطاف بالإرادة والعزيمة الراسختين في إنجاز هذه المشاريع، وهي مشاريع تكلف ملايير الدراهم، فالوحدة الحسابية بالبيضاء، هي مليار درهم.المطلوب أن تكون الرؤية واضحة، والبرامج مدروسة بشكل جيد والمخططات موضوعة، والعزيمة والإدارة قويتين. آنذاك، تستعمل وسائلك الذاتية في التمويل، ثم اللجوء إلى الشراكات مع القطاعات الحكومية والصناديق التنموية، ومجالس الجهة والعمالة والقطاع الخاص، والوزارات المتنوعة. < في هذا الإطار ربما يأتي قرار الاقتراض من الخارج؟ < بالفعل، نظرا لحجم البرنامج الاستثماري الضخم للدار البيضاء كان من الضروري التفكير في الاقتراض من البنك الدولي وبشروط تفضيلية من أجل استيفاء حاجيات هذا البرنامج الاستثماري من السيولة المالية التي تقدر ب33 مليار درهم، وهو رقم خيالي بالنسبة إلى مدينة كبيرة كالدار البيضاء، علما أن هذا الغلاف لا تندرج فيه التجهيزات والبنية التحتية لمواكبة التوسع العمراني الذي يكلف وحده 28 مليار درهم. < أثير نقاش كبير في المدة الأخيرة عن شركات التنمية المحلية؟ < طيب، هذا السؤال مهم، وهو فرصة للحديث عن الحكامة المحلية التي تعاني مشكل الجهاز الإداري، إذ أن الطاقم الإداري الحالي لا يتناسب مع التحديات والإكراهات والرهانات التي تواجه المدينة، ولا مع البرامج والمخططات الكبرى التي تستوجب موظفين جماعيين أكثر كفاءة وخبرة ومهنية، مقارنة مع موظفي القطاع العام، ما يجعل هذا الجهاز يعاني ضعفا كبيرا في تدبير وتسيير شؤون الدار البيضاء. في ظل هذا الواقع، كنا أمام خيارات عدة لتجاوز هذا العائق، وذلك من خلال إحداث شركات التنمية المحلية لتدبير عدد من القطاعات الهيكلية بالمدينة مثل "الطرامواي" والنقل الحضري والتجهيز، مكنت في النهاية من تحقيق نتائج إيجابية وساعدت على حل العديد من المشاكل والإكراهات. وأشير هنا، أن ما تقوم به هذه الشركات يتم وفق تنسيق تام مع مجلس المدينة وتحت وصايته، كما أن طموح المجلس هو استكمال كافة البرامج والمشاريع الكبرى التي وضعت لفائدة السكان. رشيدي: الحصيلة سلبية بشهادة الملك < كيف يمكن تقييم حصيلة التدبير الجماعي خلال خمس سنوات الماضية؟ < يمكن وصف حصيلة المجلس خلال هذه الولاية (2009/2015) بالهزيلة، مقارنة مع سابقتها. فما ميز هذه الولاية، منذ أول يوم لانتخاب العمدة والظروف التي أحاطت بانتخابه وبانتخاب مكتبه، غياب الانسجام بين الفرق المكونة للمجلس، فطالما شاهدنا فرقا في الأغلبية المكونة للمجلس يخوض أعضاؤها معارك شرسة ضد العمدة ساجد، تحول معها الأخير إلى رهينة في يد الأغلبية لأزيد من سنتين. الحصيلة كانت سلبية بشهادة أعلى سلطة في البلاد من خلال خطاب وجهه الملك إلى الأمة من أعلى هرم تشريعي داخل المملكة، وهو دلالة قوية على أن عاهل البلاد يعطي أولوية قصوى للشأن المحلي ولهموم وقضايا القرب، أكثر من القضايا الحيوية الأخرى. لقد شخص الخطاب الملكي حول الدار البيضاء، الاختلالات المجالية التي يعانيها أكبر قطب اقتصادي بالمغرب، كما وضع الأصبع حول مكمن الداء وحدده بشكل دقيق، ألا وهو مشكل الحكامة الذي يعانيه المجلس. < يلاحظ أن مجلس المدينة الحالي وجد صعوبة في تمويل عدد من مشاريعه، ما هي أسباب ذلك في نظركم؟ < جل المشاريع الهيكلية للمدينة المالية للمغرب ولشمال إفريقيا، جاءت من مبادرات ملكية، ساهم جلالة الملك محمد السادس في إخراجها إلى حيز الوجود عبر إيجاد تمويلات خارجية، إذ أن مداخيل المدينة التي لا تتعدى 10 ملايير سنتيم في السنة، وهي مداخيل لا تستطيع أن تغطي حتى 5 في المائة من حاجيات المواطنين، التي تتعدى 300 مليار سنتيم في السنة وهو ما اضطر معه المجلس في غياب أي مخطط للتنمية الجماعية، وفي غياب مشاريع خلاقة تدر مداخيل على المدينة، وفي غياب أي ضبط لممتلكات المدينة، التي حولها البعض إلى ريع، (اضطر) إلى الاقتراض من صندوق البنك الدولي لتمويل المشاريع الكبرى المهيلكة للمدينة. أيضا، هناك ترهل بين في تدبير ملف الممتلكات الجماعية والتحكم فيها، إذ تتحدث إحصائيات شبه رسمية عن خسارة تبلغ حوالي 400 مليار سنتيم، كان يمكن للمدينة أن تستفيد منها. < هل يمكن القول إن العجز الذي رافق التجربة خلال السنوات الأخيرة يعزى أيضا إلى تغييب المقاربة التشاركية، ضلعا أساسيا من أضلع الحكامة الجيدة؟ < إرادة الملك للقضاء على التناقضات المجالية التي تعيشها العاصمة الاقتصادية للمغرب واضحة وجلية، وهو ما دفع عدة قطاعات حكومية إلى المساهمة في مجموعة من المشاريع الكبرى التي أعطى الملك انطلاقتها، لكن في غياب مجلس قوي وقادر على الدفاع عن مشروعه التنموي، جعل بعض المشاريع تعرف التعثر. القطاعات والمؤسسات العمومية، تفتقد إلى مخاطب قوي. أعطيك مثلا لو كانت هناك حكامة رشيدة وتدبير جيد بمجلس المدينة لاستطاع هذا الأخير، أن يفرض شروطه على مجموعة من المؤسسات العمومية التي تحتضنها الدار البيضاء وتساهم في تآكل بنياتها التحتية دون أن تساهم في تنميتها، نظير المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الوطني للمطارات وشركة الخطوط الجوية والوكالة الوطنية للموانئ. هذه المؤسسات تساهم بنسب ضعيفة وفي مشاريع أقل أهمية، علما أن لها مقرات اجتماعية وتعد الدار البيضاء وفنادقها ومؤسساتها السياحية الموارد الأساسية لها. < نبه الخطاب الملكي إلى الخصاص الكبير في مشاريع القرب على حساب المشاريع المهيكلة، هل تعتقدون أن مجلس المدينة أخطأ الرؤية؟ < هناك ثلاثة قطاعات أساسية، وهي الصحة والتعليم السكن، لا يظهر لمجلس المدينة أي أثر أو تدخل فيها، ويظهر أن مجلس المدينة قد قدم استقالته في هذا المجال أو أعلن عن الراية البيضاء في مواجهة معضلاتها، علما أن الخطب الملكية الأخيرة كانت تركز على الحاجيات الأساسية للمواطنين والتي لها علاقة بمعيشهم اليومي. القناطر والطرق شيء أساسي، لكن البنيات الأساسية للتعليم والصحة والسكن والترفيه وبنيات القرب من المواطنين أهم بكثير من مسرح ملكي سيكلف المدينة حوالي 174 مليار سنتيم وعلى مقربة منه هناك منازل آيلة للسقوط. هذه التناقضات المجالية هي ما يولد ما تعيشه المدينة من انتشار لظواهر مجتمعية سلبية. ظواهر لها تكلفة مادية على مستوى الضبط الاجتماعي والاقتصادي. < المصداقية والالتزام مع المواطنين والناخبين يقتضيان المحاسبة على المسؤولية؟ < ما آلت إليه البيضاء تتحمل فيه الفرق المكونة للأغلبية داخل المجلس المسؤولية كاملة والمجلس يتكون من 147 عضوا، وليس فقط من عمدة الدار البيضاء، فتفويض الأشغال ظل لأزيد من أربع سنوات في يد العدالة والتنمية في شخص النائب الخامس مصطفى الحيا، وبالتالي على الجميع أن يتحمل المسؤولية كاملة في تدبير هذه المدينة وفي ما وصلت إليه سواء بالسلب، أو الإيجاب. أنا أعرف العمدة محمد ساجد منذ أكثر من 30 سنة، فهو شخص صادق ورجل وطني وملتزم بما يؤمن به. ذلك أنه في إحدى المرات اقترحنا عليه أنا والكاتب الأول السابق عبد الواحد الراضي وعضو المكتب السياسي محمد محب، أن يلتحق بحزبنا، وبلباقته المعهودة اعتذر لنا وقال إنه متشبث بالبقاء والاشتغال من داخل حزب الاتحاد الدستوري، رغم "إني متشبع بالفكر الديمقراطي والتقدمي والحداثي"، كما قال. ملاحظاتنا لا تنقص من قيمة الرجل الذي عرفته أكثر عندما اشتغل على الملفات الديبلوماسية لدعم القضايا الوطنية في إطار الديبلوماسية البرلمانية. في الختام، أعتقد بأن قدرنا أن نواجه المرحلة الجديدة والرجالات والعقليات القديمة، إذ ستعود الوجوه نفسها لتدبير الشأن المحلي، بسبب نمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي الكارثي. إنجاز: يوسف الساكت تصوير: (عبد اللطيف مفيق)