مقاربة سيكو إكلينيكية للصوم ركز الباحث حميد لشهب، السيكولوجي والباحث في الفلسفة، في أعماله على محاولة فهم الإسلام بطريقة مغايرة للتقليد الرجعي المحافظ وللأصولية المتطرفة، مقدما قراءات جديدة في إطار مشروع لم يكتمل بعد. ويهدف الدكتور لشهب، المقيم في النمسا، وعضو بالمجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ، باسم حزب الخضر، من خلال دراساته السيكولوجية للإسلام، إلى الرقي بالدين إلى ماهيته الوجودية الجوهرية، كفلسفة حياة مؤسسة على الحب، بعيدة عن الفهم المتخلف للإسلام، الذي يختزل هذا الدين العظيم في الحرام والحلال. لشهب استجاب لطلب "الصباح" بالمساهمة بنصوص من وحي رمضان، تعتبر عصارة بعض أبحاثه في مقاربة القضايا الإسلامية من زوايا فلسفية وسيكولوجية.إعداد: برحو بوزياني د. حميد لشهب (النمسا) علم النفس الإكلينيكي هو العلم الذي يجمع بين العلوم والنظريات والمعرفة السريرية قصد فهم طبيعة النفس الإنسانية، سواء تعلق الأمر بالقلق والضغوط والاضطرابات أم بالأمراض النفسية ومواطن الخلل الوظيفي الناتج عنها. يحاول التخفيف من حدة هذه الاضطرابات، طبقا لتقنيات خاصة، والتغلب عليها من خلال الفحص والتشخيص والعلاج. سنحاول تتبع فوائد الصوم في بعده السيكو-إكلينيكي، ليس للدعوة لممارسته من منطق ديني، لهذا المنطق رجاله، بل لفهم ما يحدث في النفس، وفي الجسد البشريين، عندما يُمارس الصوم بانتظام. ونعني بهذا، ليس فقط في رمضان، بل على امتداد السنة.على الصعيد الجسدي القح، لابد أن نتصور جسمنا كمعمل كيماوي هائل، لا يكف عن الاشتغال والإنتاج إلا عندما يتوقف الجانب الفيزيزلوجي فينا عند الموت. في المجتمعات التي لا تعاني المجاعة وقلة الموارد الغذائية، يُشحن الجسم يوميا بالغذاء، سواء أكان بحاجة لذلك أم لا. وتفرض الحياة العصرية تغييرا جذريا للعادات الغذائية. يرتكز غذاء اليوم أساسا على الدهون والسكريات والأملاح. وهي كلها مواد تُستهلك بكميات يومية مكثفة لا يحتاجها الجسم بالضرورة، بل تخرج فضلات، بعد أن تستقر لمدة معينة في الأمعاء. لم يعد المرء يأكل بطلب من الجسد، بل لطغيان الشهوة وتنشيط مراكز بعينها في المخ، تدفع للأكل دون فرامل. وهنا بالضبط يكمن النفس-الجسدي في الصيام. فشهوة الأكل، كباقي الشهوات الأخرى، هي نشاط نفسي محض، محكوم بالطريقة التي نُنشط بها المركز الخاص لهذا الغرض في المخ. فكلما لبينا رغبات وطلبات هذا المركز، كلما طلب بالمزيد، على غرار كل مراكز المخ الأخرى. وتتم عملية عقلنة سلوك وعادات تغذيتنا بالسيطرة على نشاط الشهوة هذا، وهو عمل شاق ومضن نفسيا. قد يكون الصيام تمرينا مفيدا للاشتغال على الذات والتحكم في هذه الشهوة، عوض فسح المجال لها لتتحكم فينا. ويدخل هذا في إطار بناء الشخصية للفرد، وتقوية مبدأ الإرادة الحرة فيه. لا يعني هذا حرمان النفس، بل عقلنة طريقة استهلاكها، بما لا يتجاوز حدود ما يحتاجه الجسم ليقوم بوظائفه البيولوجية على أحسن وجه.عندما يكون المرء صائما ينخفظ معدل السكر في دمه ويشعر بالتعب والخمول والصداع في الرأس وحتى دوخة وارتعاش في الأطراف، وهذا ما يسبب العصبية الزائدة والهيجان. وفي مثل هذه الحالات، يكون الإنسان مطالبا بإشعال فتيل العقل فيه، ليتحكم في هذا الظرف. وتفتح أمام من ينجح في هذا آفاق رحبة للسكينة والتأمل ووصول مستوى إدراك رفيع، أي أن هناك مراكز في المخ تُنشط للتفكير والإبداع، وتتمظهر هذه التجربة بالخصوص عند المتصوفة والبوذيين مثلا. فالسكر المخزون في الكبد يُنشط، تماما كالدُّهن المودع تحت الجلد، وبروتينات العضلات والغدد.بيولوجيا يقوم الجسد بتخزين البعض مما يحتاجه، لكن الإنسان مطالب باستهلاك هذا المخزون، لكي لا يتحول لشيء يضر بصحته، تماما كما نقوم باستعمال ما نحتفظ به من غذاء في حدود مدة معينة. وكر الإفرازات إذا لم تُفرغ الأمعاء كلية من حين لآخر، وتُنظف طبيعيا من قبل الجسم، فإنها تصبح وكر إفرازات لا حصر لها. ولكي تكون عملية التنظيف ناجعة، يكون الماء ضروريا، ولهذا السبب بالضبط تسمح بعض الديانات بشرب الماء أو سوائل أخرى مثل الشاي أثناء الصوم. وظيفة الماء هي حمل هذه الإفرازات والقذف بها خارج الأمعاء، ليتخلص الجسد منها. نحن واعون بأن هذا الأمر "يتناقض" والتصور الإسلامي للصوم، لكن نؤكد على ضرورة الإشارة إليه من الناحية الصحية، وبالخصوص، عندما يصوم المرء طوعا في غير رمضان.