كأنه يقف على الطرف الآخر من الجسر المنهار، ويشير إلى الآخرين بالعبور إلى ضفته الآمنة، هكذا تتصور عائلات وأقارب محتجزي بويا عمر خطة الوزير الحسين الوردي، الذي بدأ في كنس مستشفيات عبر منها هؤلاء سابقا، وتوسيع المطابخ لتحتضن أَسرة إضافية، وشحذ همم أطباء مرهقين، ويبحث عن بقايا إرادة في ممرضين مسنين، لعلاج مرض عضال في مراحله الأخيرة. وكأنهم استأصلوا الرحمة من قلوبهم، ونفضوا ذاكرتهم من سنوات عاشوها مع أبنائهم أو أشقائهم، ليلقوا بهم، بعد أن خذلتهم صحتهم العقلية والنفسية، في بيوت /معتقلات سرية وعلنية، ويقبلوا بتكبيل أياديهم، وبترويضهم كما تروض القرود والكلاب، وبتحويلهم إلى عبيد يقضون سخرة أسياد بويا عمر.هذا جزء من خلاصة سقطت في الهاوية بين طرفي الجسر المنهار، وخلف دويها سؤال: ما البديل؟ خاصة أن الوزير يعرض حلا جربته العائلات لسنوات، وألبسه الوردي اليوم زي "مبادرة الكرامة" في حين تطالب الأسر ب"مبادرة كفالة".ضحى زين الدين الصيدلي مجنون الحبيبة الخائنة أحبها، هام بها، قرر أن يتقدم لخطبتها كما وعدها، زارا معا عدة بيوت جديدة، واختارا الخاتم، واتفقا على أسماء الأبناء الذين ستثمرهم علاقتهما الزوجية، اختلفا على ألوان طلاء الشقة، وحلما بسيارة عائلية. غير أن "الخيانة تنشأ من الثقة"، وهو المثل الذي انطبق على حبيبة الصيدلي، الذي اعتقد أنه الفارس، الذي تنتظر حبيبته قدومه على جواد أبيض. "...تزوجات، ضربات الصداق، والعرس في الصيف". كما لو كانت رصاصات، أطلقت على صدره تباعا، لم ينبس بكلمة، وقف مشدوها، أمام زبناء الصيدلية، لم ينفع أي دواء من الأدوية المتراصة في رفوف صيدليته في إخراجه من هذه الحالة. "قال الأطباء إنه أصيب بصدمة قوية" يقول فاعل جمعوي في جمعية لعائلات نزلاء بويا عمر. أصيب والده بحزن كبير، وقرر أن ينقذ ابنه مهما كان الثمن، تمنى أن ينطق بكلمة واحدة فحسب، أن يكسر صوته هذه القوقعة التي تحاصره داخلها. غير أنه حين تكلم، لفظ السباب وتحول هدوؤه وصمته إلى عاصفة، إلى انتقام من القريب والبعيد، "ألو ولدي هاج.. أجيو اديوه للسبيطار"، يطلب الأب النجدة من عناصر الوقاية المدنية، غير أنهم يخبرونه أن عليهم حيازة وثيقة رسمية تفيد ذلك من القائد. يسرع الأب، يبحث عن رجل السلطة، ويخبره بعدوانية ابنه، فيتم إرساله إلى المستشفى بعد ساعات من السعي وراء الإجراءات. لا يمر أسبوع حتى يفرج عن الابن المريض، فيهيم في الشوارع، وحين يعود إلى البيت يجدد عدوانيته، يضرب الجميع، حاول الانتحار عدة مرات. نشبت الخصامات بين أسرته وبين الجيران الذين لم يحتملوا إزعاجه، وأصبح محط شكايات متكررة، غير أنه كلما نقل إلى المستشفى سرعان ما يفرج عنه، بمبرر أن هناك مرضى آخرين يجب أن يحظوا بفرصة العلاج، وأن على أسرته أن تحتفظ به في البيت. طافت الأسرة بالصيدلي الذي ازداد حمقا. أغلب المستشفيات، وكان الأب يتدبر مبالغ مالية ليرشي بعض الموظفين لترك ابنه في المستشفى مدة طويلة، غير أنه ما أن تنتهي المدة التي يفترض أن يغطيها مبلغ الرشوة حتى يفرج عنه، ويعود إلى البيت مثيرا "الشوهة"، كما يتصور الأهل والجيران. وحين كان الصيدلي يكف عن الاعتداء على الآخرين، فإنه كان يستهدف جسده، ويشرع في ضرب رأسه بكل ما يصادفه، كما لو كان يعاقب نفسه، أو يبحث عن الموت في كل ضربة يوجه إلى رأسه ليرتاح.حاول الأب احتجاز ابنه، غير أن صراخه كان يقتحم بيوت الجيران، ويحرمهم الراحة، ولأنه فقد رشده جرعة واحدة، فإن الصيدلي لم يعد يفرق بين القريب والبعيد، ورويدا رويدا لم تعد حتى أسرته تعرف من يكون الشخص الذي يكون، وتكفلت السنون، بمحو صورته الأولى، ولم يبق سوى العنف والصراخ والفضيحة. لم تحظ الأسرة رحمة من الآخرين، وانخفض منسوب الشفقة يوما بعد آخر، لذلك حرمت منها أيضا ابنها، وقررت نقله إلى بويا عمر، خاصة بعد أن أصبحت عاجزة عن البقاء معه تحت سقف واحد، مخافة أن يرتكب في حقهم جريمة.