كأنه يقف على الطرف الآخر من الجسر المنهار، ويشير إلى الآخرين بالعبور إلى ضفته الآمنة، هكذا تتصور عائلات وأقارب محتجزي بويا عمر خطة الوزير الحسين الوردي، الذي بدأ في كنس مستشفيات عبر منها هؤلاء سابقا، وتوسيع المطابخ لتحتضن أَسرة إضافية، وشحذ همم أطباء مرهقين، ويبحث عن بقايا إرادة في ممرضين مسنين، لعلاج مرض عضال في مراحله الأخيرة. وكأنهم استأصلوا الرحمة من قلوبهم، ونفضوا ذاكرتهم من سنوات عاشوها مع أبنائهم أو أشقائهم، ليلقوا بهم، بعد أن خذلتهم صحتهم العقلية والنفسية، في بيوت /معتقلات سرية وعلنية، ويقبلوا بتكبيل أياديهم، وبترويضهم كما تروض القرود والكلاب، وبتحويلهم إلى عبيد يقضون سخرة أسياد بويا عمر.هذا جزء من خلاصة سقطت في الهاوية بين طرفي الجسر المنهار، وخلف دويها سؤال: ما البديل؟ خاصة أن الوزير يعرض حلا جربته العائلات لسنوات، وألبسه الوردي اليوم زي "مبادرة الكرامة" في حين تطالب الأسر ب"مبادرة كفالة".ضحى زين الدين ترك أحلام المدينة للعناية بوالدته المسنة فأخذه الحزن إلى الجنون كان مأخوذا بامتلاك شقة والبر بالوالدين ومفاجأتهما بتذكرتي السفر لأداء مناسك الحج، واختيار بنت الحلال ليتزوجها، يقيم الزفاف في "لبلاد"، ويعودا، معا إلى العاصمة الاقتصادية. هذا هو الحلم الذي راود امحمد، الذي شعر أنه يقترب من تحقيقه خطوة خطوة، بعد أن يفي مدير الفندق بوعده ويتخذه مستخدما دائما، مرسما، مستفيدا من الصناديق الاجتماعية، غير أن رياح الموت لا تأتي بما تشتهيه سفن الحياة، فخطفت المنية والده، وبقيت الأم المسنة وحيدة، خاصة أن باقي الإخوة متزوجون وآباء ولهم مسؤوليات.اجتمعت العائلة، وقدمت أحلام امحمد قربانا، "عاد شقيقي إلى الدوار ليرعى والدتي، وخسر عمله، إذ كان الاتفاق أن يرعى مصالح العائلة، وأن يهتم بالوالدة المسنة، في انتظار أن تتحسن الظروف، غير أن امحمد أصيب بالإحباط، واحتجزته غمامة حزن داخلها. رافق بعض أصدقاء السوء، الذين منحوه رفقة خمر ومخدرات. يوما بعد آخر، ستتطور النزوة ولحظة نسيان الهموم إلى إدمان، ثم هلوسات، "تغيرت طباعه، وتحول من شاب لطيف إلى سريع الغضب، ثم سرعان ما بدأ كما نقول "تيدخل وتيخرج في الهضرة"، عرضناه على طبيب مختص، ووصف له دواء يساعده على النوم، لكنه حالما يستيقظ يعود إلى حالته، ثم تعلم حيلا للتخلص من الدواء خلسة، لتزداد حالته سوءا" يقول شقيق امحمد. عوض أن يهتم امحمد بأمه العجوز ويحميها من خطر الوحدانية، أصبح يشكل عليها خطرا، "نصحنا الناس بالفقهاء، بزيارة الزوايا. ذبحنا كبشا هنا وديكا هناك، دفعنا لممرض هنا، وطبيبا هناك. وكانت الأيام تجري ولا يتحسن، وكلما قضى فترة في مستشفى الأمراض العقلية عاد أكثر عنفا، حتى أنه أصبح يضرب والدتي المسكينة، ويقضي حاجته أينما شاء. صبرت أمي وهي في سن تحتاج فيه إلى الرعاية وليس رعاية طفل في سن العشرين، كما صبر أقاربنا على زيارته المفاجئة، إذ كان يقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام لزيارتهم، وبحالة مخجلة، إذ يقطع ملابسه، وينام في الشارع، ويحمل أسمالا كالمشردين. كان يمشي حافي القدمين ويأكل بطريقة الحيوانات، ويهمل نظافته. أحيانا يقضي حاجته في ملابسه، وأحيانا أخرى يخرج السرير إلى الزقاق ويضع التلفاز على التراب، ويستلقي عليه ثم يحدق في التلفاز كأنه يشاهد برنامجا ما، ثم بدأ يبيع الأغراض المنزلية.تحملت الأسرة كل هذا الوبال، لكن حالة امحمد تطورت أكثر، "لجأت إلى تدخلات في مندوبية وزارة الصحة بمراكش ليحتفظوا بشقيقي مدة أطول غير أنه بعد ثلاثة أشهر طلبوا منا إعادته إلى البيت، بمبرر أنه لا يمكن الاحتفاظ به إلا بقرار من المحكمة، وهو القرار الذي عجزنا عن انتزاعه".أعادت الأسرة امحمد إلى البيت، وأملها أن تبقيه الأدوية هادئا، غير أن ذلك كان ضربا من ضروب الخيال، فحالة الشاب تطورت وأصبح يشكل خطرا ليس علي عائلته فحسب، بل أصبح يطارد الفتيات في الشارع، ويعتدي على الجيران، حتى أنهم أصبحوا لا يمرون من أمام بيت أسرة امحمد وقاطعوها، وحملوها مسؤولية أفعاله، "نفد مخزون الصبر، ونفدت المحبة، وتحول امحمد إلى مصيبة يجب التخلص منها بسرعة، لإنقاذ الآخرين".جالت حكاية امحمد في مقهى الحي، قبل أن يرتفع صوت اقتراح سينهي هذه المأساة "ياك الدولة ما بغاتش تدير واجبها اديوه لبويا عمر". يغيب لأيام ولا نعرف مصيره اتخاذ القرار جاء جماعة، الجيران متضررون، سكان الحي، سكان الأحياء المجاورة، سكان المدينة، لأن الشاب أصبح يجول ويصول وحين تداهمه الهواجس والهلوسات يتحول من مجرد مشرد يسير هائما إلى شخص عدواني يعتدي على كل من يصادفه. يكسر سيارات الغير ونوافذ البيوت."تلقيت رقم شخص قيل لي إنه يحتفظ بمرضى حالتهم أخطر من حالة شقيقي، وهاتفته، واتفقنا على ثمن 1100 درهم، لأنقله في اليوم الموالي مع بعض الأقارب على متن سيارة".يرفض شقيق امحمد الخوض في تفاصيل تحول شقيقه من معتد إلى عامل في بيت الشخص الذي يحتجزه منذ حوالي أربع سنوات "حين أزوره، أجده نظيفا مرتديا الملابس التي أحملها له بانتظام ، صحته جيدة، ما يعني أنه يتناول وجباته كاملة، غير أنه لا يتعرف علينا، ولا أريد صراحة أن أعرف كيف أصبح هادئا ومنضبطا، ووديعا كحمل، لأني قد لا أحتمل إن عرفت أنه تعرض لعنف مبالغ فيه، لذلك أتجاهل مشاعري، وأحتجزها داخلي، وأحاول أن تكون علاقتي بالعائلة التي تعتني بأخي طيبة، كي تنعكس عليه. المهم الآن، أنه لا يطلب مني إعادته إلى البيت، ولا يرفض أي شيء، يساعد مالك البيت على غرار باقي المرضى في نقل أكياس الزيتون وطحنه، يقومون بعدة أعمال تلهيهم عن واقعهم وتبقيهم منشغلين، بحيث لا يحل المساء إلا ويستسلموا للنوم كأطفال صغار، بالنسبة إلي هذه الحياة أفضل لأخي من التي كان يعيشها في الشوارع حافيا، متسخا، جائعا، خطيرا، منبوذا، يغيب لأيام ولا نعرف مصيره. أما الآن فنعرف أنه في مكان آمن وأنه لا خطر عليه".