حانات ملاذ المقموعين

يجد زبناء بعض الحانات أنفسهم مشمولين برعاية خاصة، تبدأ منذ الجلوس على الطاولة إلى حين الانتهاء، لكن هذه العناية لا تصمد كثيرا، إذ بحلول موعد الإغلاق، ترتفع التصفيقات، ليس للتشجيع، ولكن لطرد الزبائن، قبل حلول أصحاب الحال المكلفين بضبط مواقيت فتح الحانات وإغلاقها. في أحد المحلات بزقاق متفرع عن شارع ابراهيم الروداني، يجتمع أناس قاسمهم المشترك، عشق الكأس، يختلفون من حيث مواعد الالتقاء، إذ بعضهم يلتحق بما يطلق عليه "المقر الاجتماعي" في الصباح فيما آخرون يتقاطرون عليه انطلاقا من الساعة الرابعة. في هذا الفضاء يذيبون الخلافات وينسون المشاكل، كما يتحدون القمع ليعبروا بأصوات مرتفعة، وكما يحلو لهم، فلا أحد يمنعهم من التعبير، إذ أن المهم في البداية والنهاية هو الدفع. نادل وفتاتان يتكلفون بتلبية الطلبات وفتح القنينات وتقديم بعض المأكولات التي ترتفق بالمشروبات، فيما رجل تجاوز عمره الخمسين يجلس خلف جهاز عبارة عن صندوق المداخيل، وإلى جانبه عامل آخر مكلف بتلبية نداءات النوادل. قهقهات هنا وهناك، وحديث حول السياسة والكرة ومواضيع أخرى، ما يعكر الاستماع إلى الموسيقى المنبعثة من سقف الحانة. هنا يشعر الزبون أنه فعلا ملك، على حد قول المثل الفرنسي، فبمجرد رفع عينيه يدرك النادل أنه في حاجة إلى خدمة ليهرول مسرعا إليه. وفي مرات لا يحرك الزبون بنت شفة فكلمات العيون تغني عن الكلام، ويأتيه مسرعا بقنينة جعة مملوءة أو بكأس من مشروب روحي يفضله. لا تتراجع النادلة إلى الوراء عندما يطلبها الزبون، ففي مرات تكون حاجته إلى مزيد من السكر، وفي أخرى تكون الحاجة كلاما فقط وتبادلا لعبارات تزيد من راحته. تتقدم الفتاة نحو الزبون وتأخذ المنديل لتشرع في مسح المائدة ولو أنها ممسوحة، فحركتها هذه ممزوجة بتبادل عبارات تستهوي الزبون وتجعله يشعر بأنه يصدر أوامر فتجاب، فلا أحد يرفض له طلبا، فقط بين الفينة والأخرى تنزل أمامه تذاكر صغيرة عليها أرقام، تكون حاصل ما يطلبه من مشروبات وأكل. الرجل الخمسيني الموجود خلف الصندوق هو من يصدر تلك التذاكر عيناه تستطلعان مجموع الفضاء، تراقبان البعيد والقريب، وفي لحظات يصدر بدوره أوامر إلى النوادل، يطالبهم بالتدخل في حال ما تعرضت قنينة أو كأس لكسر، أو هرقت سوائل على الأرض. لا يكتفي الزبون بطلبات ما تقدمه الحانة، بل يتعداه في أحيان لطلبات أخرى تجلب من خارجها، ومن دون عناء أو إلحاح، يستجيب النادل ليرسل شخصا آخر مكلفا بالسخرة لتنفيذ الطلب. على جانب من الحانة يوجد "الكونطوار" المكان الذي يجلس في جانب منه الرجل الخمسيني، وآخر مكلف بالطلبات إضافة إلى فتاة مهمتها مؤانسة الجالسين بالقرب منها، ومشاركتهم شربهم. حديث وغناء، تتصاعد حدتهما مع مضي الساعات. الساعة دنت من منتصف الليل، النوادل تشتتوا قبلها بين الموائد يستخلصون ما سجل في حسابات الزبون، ليبدأ بعد ذلك مباشرة دخول عنصرين مفتولي الأعضاء، تميزهما تصفيقاتهما المقرونة بعبارات تطالب الزبناء بالإسراع في مغادرة الحانة، ولا تتوقف التصفيقات والصياح إلا بعد أن يخرج آخر زبون. م. ص

حانات ملاذ المقموعين

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بوهندي: القـرآن كشـف المنافـع والأضـرار

زوجة سكير… علاقات متوترة وجميلة

مقالات ذات صلة