الشارع أضحى مرتعا لبائعات الهوى والباعة الجائلون احتلوه وتجاره يتحدثون عن مؤامرة لم يعد شارع محمد الخامس بفاس، أو "البولفار" كما يطلق عليه الفاسيون، كما ألفوه قديما وجهة لـ "النزاهة" والترويح عن النفس والتجوال الآمن، ومتنفسا يروقهم بمنظره وبناياته وأشجاره الوارفة الممتدة على طوله. حينئذ كان الشارع وجهة لإمتاع العين، لكنهم الآن يرثون مصيره المدمي للأفئدة العاشقة لجماله، وما آل إليه من إهمال ظاهر للقاطن، قبل الزائر الذي قد لا يخبر بماضيه. صور ومشاهد مقززة تطالع عابره من كل الاتجاهات وما تفرع عنه من دروب و"زناقي". الإهمال باد في كل رقعة به، ولا يحتاج اكتشافه إلى عناء أو جهد مضاعف. أزبال تؤثث ساحة وسطه، وحفر تحاصر كل مار في رصيفه المحتل عن سبق إصرار، والمبتور من زليجه الأصفر المتهالك. مظاهر مشينة ابتلي بها وتخدش سمعته ورونقه، في انتظار حسم رسمي في مصيره الغامض. بائعات هوى بئيسات بين ملتقييه بشارعي الحسن الثاني والجيش الملكي بالمدينة الجديدة، يمتد "البولفار" شامخا بتاريخه وميزة أقدم شارع بفاس. عبوره لا يحتاج وقتا طويلا، سواء انطلاقا من أقدم مركز للبريد قبالة ساحة رمز توأمة فاس بفلورانسا، أو من "الاتجاه المعاكس" لطموحه في نيل العناية اللازمة على غرار جيرانه من الشوارع المؤثثة بلوحات طبيعية تسر العين وكراسي رخامية. "حضي جيابك".. شعار يرفعه كل مار ليلا بالمعبر المقابل لمقر الأمن، خوفا "من كل ما من شأنه" أن يبرد جيبه الدافئ ببضعة دراهم أو هاتف يفتخر به بين أقرانه، في مشهد قد يتكرر في أزقة مظلمة متفرعة عن هذا الشارع الأقدم، خاصة بواجهتين جانبيتين للسوق المركزي، حيث تحاصرك بائعات هوى "تآكلت أجسامهن"، مدعمات بذوي السوابق القضائية، للتسول أو عرض خدماتهن الجنسية. فتيات مرسومة خرائط ضياعهن، على وجوههن الشاحبة. بعضهن أنجبن سفاحا صغارا يواجهون مصير أمهاتهم، ونساء مسنات يعرضن أنفسهن لأعمال "التصبين" أو "النشير" أو هما معا، ولا يتوانين في كشف "الخدمة" الخفية التي قد تحكم عليهن بها الظروف، بامتهانها في أفرشة طالبيها الطامحين في "تصبان" الجسد قبل الثياب، لذلك يتسابقن في إبراز مفاتنهن المتآكلة، بكشف المؤخرات إغراء لزبناء عابرين. شارع في طي النسيان أمطار خفيفة تهاطلت قبيل زيارة الأصدقاء لهذا الشارع الحامل اسم "المجاهد الأكبر الذي ضحى بنفسه ودمه وحريته لأجل استقلال هذا الوطن واستقراره وأمنه، لا يرضيه حال شارع "انتفض ونطق وحملني مسؤولية التبليغ إلى المسؤولين عن هذه المدينة"، متسائلا عن حقه ونصيبه من "التنمية"، وهو الذي لم يشمله الإصلاح والتغيير وتزليج الأرصفة.تلك الأمطار كشفت عورة شارع في "طي النسيان"، "يستحيي المرء أن يترجل فوقه، خاصة في الأيام الماطرة"، إذ "لا ينجو المرء أثناء سيره فيه، من غوص رجليه في الحفر والبرك المائية.وليست الحفر الغارقة في أوحالها، وحدها السمة المميزة لهذا الشارع الذي يعاني ضعف الإنارة وغيابها بالأزقة المتفرعة، بل تآكلت بعض بناياته القديمة، وظهرت على سقوفها نتوءات تهددها وكل عابر لمحيطها المحتل من قبل سيارات مركونة جانبا وتزيد في اختناق حركة المرور فيه خاصة في أوقات الدروة، كما هو حال الباعة الجائلين الذين حجزت مواقع بأسمائهم ووجوههم المألوفة. تجار مفلسون بشارع قتله الإهمال "إلى كنت باساجي ولا ولد البلاد.. مرحبا بك.. الرخا فالريباخا"، "بياسة بعشرين درهم وثلاثة بألف ريال".. يشهر شاب في مقتبل العمر، سلعته من الأقصمة الصوفية المعروضة على الرصيف بهذا الشارع، بموقع التفت حوله نساء لانتقاء ما يرغبن فيه، في مشاهد بلقطات متقاربة تتكرر بأمكنة أخرى على طوله، غير بعيد عن عربات مجرورة تعرض كل أنواع الخضر والفواكه. الأصوات تتعالى من كل مكان، إشهارا لسلع وبضائع مختلفة، بشكل مقتبس مشاهد مألوفة بالأسواق القروية الأسبوعية، وليس بشارع قادم من عمق تاريخ مدينة الإثني عشر قرنا. ألبسة وأحذية وكل ما يحتاجه عابر الشارع يجده معروضا على رصيفه المحتل، فيما ضاق أصحاب المحلات التجارية ذرعا من الانتشار الفظيع للظاهرة التي تؤرقهم و"قطعت أرزاقهم"."شوفو فينا لوجه الله.. وعطيونا التيقار، ندخلو طريف د الخبز لوليداتنا".. كلمات نطق بها تاجر بزنقة متفرعة وتختصر الآلام التي تعتصر أحشاءه، ردا على سؤال حول درجة تآخيه وباقي تجار "البولفار" مع الظاهرة، نادما عن اليوم الذي قرر فيه فتح 3 محلات لبيع الأحذية بشارع "قتل" الإهمال والباعة الجائلون، الحركة التجارية به، متمنيا أن ينظر المسؤولون إليه وزملائه بعين الرحمة. من تجارة الألبسة إلى بيع "الزريعة" يتأسف تاجر ملابس وأحذية، لما آل إليه "البولفار" الذي كان إلى حين مكانا لـ"نزاهة" أهل فاس، عكس ما عليه الأمر حاليا، إذ "ما بقيتش تشوف مرات الراجل فيه"، متحدثا عن تراجع العائلات الفاسية عن عاداتها المرتبطة بزيارة هذا الشارع خاصة في عطلة نهاية الأسبوع، والذي "ما كان يوما موقعا لبيع البطاطس والجزر والموز والخضر والفواكه" و"الهندية"...واقع الفوضى والاحتقان امتد إلى شوارع أخرى بما في ذلك شارع الحسن الثاني، الغارق في مظاهر بيع "الزريعة" و"النفاخات"، دون أن يستسيغه التجار والمهنيون والمهندسون والمحامون وموظفو البنوك، بشارع محمد الخامس، "الأكثر تضررا"، إلى درجة حديث بعض التجار، عن "مؤامرة تحاك ضده"، خاصة في ظل صوم القوات العمومية عن حملات تحرير الملك العام.وفي انتظار مبادرة "تحرير هذا الشارع من فوضاويته وواقع التسيب الذي يعيشه منذ انطلاق "الربيع العربي" الذي أمسى خريفا"، يتساءل التجار عمن له مصلحة في إغراق الشارع بالباعة الجائلين الأفارقة منهم والمغاربة، الذين يعرضون سلعهم على اختلافها، غير بعيد عن المحلات التجارية التي يشتكي أصحابها من سوء تعامل مغرقي الأرصفة بسلعهم، وتحرشهم بالنساء العابرات. مظاهر مضرة بفضاءات "البولفار" رصد تجار "البولفار" مظاهر مضرة بفضاءات الشارع وبمصالحهم، متحدثين عن عدة نقط سوداء جعلت من الشارع والأزقة المتفرعة عنه "فضاء متخلفا عن باقي المراكز التجارية الموجودة بفاس"، لمعاناتها عدة مشاكل من قبيل "ضعف الإنارة بالشارع الرئيسي وشبه انعدامها بالأزقة المتفرعة عنه، وقلة العناية بالأشجار الموجودة بالأزقة ما أفسد جمالية المجال الأخضر".ويعاني الشارع قلة صيانة وإصلاح الحفر المحدثة بفعل عوامل التعرية الطبيعية أو الآدمية أو التي تركتها أشغال المصالح المتدخلة، ووجود عدة قطع أرضية مهدمة وغير مصانة من قبل أصحابها تجعلها مرتعا للمتشردين وقد تكون أوكارا لارتكاب الجرائم وتراكم الأزبال ما يضر بصحة المارة والتجار والمهنيين الموجودين على مقربة منها"، ما يفرض التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. تجار يتهددهم الإفلاس بدا مكتب جمعية تجار ومهنيي شارع محمد الخامس والأزقة المتفرعة عنه، غير ما مرة منشغلا بهذه المشاكل، و"انعدام السلامة الطرقية بالشارع، بسبب فتح مرور السيارات في كلا الاتجاهين، وما يسببه ذلك من حوادث للسير"، مؤكدا عقده اجتماعات مع عدة جهات، لإيجاد حلول عملية للمشاكل الكبرى التي يعانيها "القلب النابض لاقتصاد فاس"، خاصة ضعف النظافة وقلة الإنارة.ويربط بعض العارفين بخبايا الأمور، بين تهميش هذا الشارع ووقوف تجاره ومنخرطي الجمعية، في وجه محاولة تفويت السوق المركزي لإقامة مركب عمراني ومشروع معماري متعدد الأنشطة السياحية والخدماتية والسكنية، الذي خلف ردود فعل قوية في أوساط التجار الذين يتهددهم الضياع والتشرد بعد سنوات طويلة قضوها في هذا السوق الواقع بموقع إستراتيجي بهذا الشارع. إعداد: حميد الأبيض (فاس) – تصوير: أحمد العلوي المراني
