متحف محمد السادس… ميلاد جيل جديد من المتاحف

بعد عشر سنوات من التعثر، فتح أخيرا متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث، أبوابه أمام العموم، بعد أن كان الملك محمد السادس أول زواره الرسميين، أمس (الثلاثاء)، وكان أول من فتحت أمامه أروقة المتحف، الذي خصص معرضه الافتتاحي للاحتفاء بمائوية الفن التشكيلي المغربي، تحت شعار "1914-2014... مائة سنة من الإبداع". هذا المتحف الوطني الأول من نوعه منذ عهد الحماية، والذي تعثرت أشغال تشييده في سياقات عدة، قبل أن يتم التسريع فيها منذ سنتين، بقرار ملكي وبعد تشكيل المؤسسة الوطنية للمتاحف، قال مديره عبد العزيز الدريسي، إن المغرب سيدخل به إلى عهد جديد على مستوى التحافة، لأنه "من هذه المعلمة سندشن جيلا متحفيا جديدا يتجاوز البعد الإثنوغرافي للمؤسسات القائمة، ليضع المغرب على محك التفاعل مع التحولات التي تعرفها خريطة الفن المعاصر في العالم".ويقع المتحف، الذي كلف تشييده 200 مليون درهم، وسط العاصمة الرباط، على مساحة تقدر بحوالي 10 آلاف متر مربع، ويتشكل من ثلاثة طوابق، يضم العلوي منها أربع قاعات للعرض ومرافق الإدارة، أما الأرضي ففيه قاعة كبيرة للعرض، وأخرى للأنشطة البيداغوجية، وقاعة شاي ومكتبة، أما التحت أرضي، فيضم قاعة للندوات ومرآبا للسيارات. فماذا أعد المعرض لأوائل زواره؟ 100 سنة من... الإبداع اختارت المؤسسة الوطنية للمتاحف، التي يديرها التشكيلي مهدي قطبي، للمعرض الأول في تاريخ المتحف الوطني، تيمة 100 سنة من الفن التشكيلي المغربي، وبالضبط الفترة 1914-2014، لكن المثير هو الترتيب الذي اختير لعرض الأعمال، إذ يظهر، أن الصيغة أريد بها أخذ الزوار في رحلة عبر الزمن، تتشكل من أربع مراحل، وتبدأ من الطابق تحت الأرضي الذي ستعرض به أحدث الأعمال وصولا إلى أروقة الطابق العلوي حيث ستعرض في أروقته أعمال رواد الفن التشكيلي المغربي.وحصلت "الصباح" على إذن حصري باكتشاف باكورة 100 سنة من الفن المعاصر المغربي، قبل فتحها أمام العموم، فكانت البداية بأروقة الطابق الأول أو العلوي، الذي يحتوي ثلاث مراحل، ولجدران كل واحدة منها لون معين.المرحلة الأولى، المشار إليها باللون الأسود، تعرض فيها الأعمال التشكيلية التي ظهرت من بداية القرن العشرين إلى نهاية الخمسينات، وكما تشير إلى ذلك لوحات توجيهية، فهذه المرحلة "ظهر فيها فنانون مغاربة، ومعهم جمالية جديدة، عندما تخلوا عن إنتاج الفن الموروث، واعتمدوا لأول مرة على اللوحة بحاملها وعدتها، بتشجيع من البعثات الأجنبية"، بشكل أوضح، سيتعرف الزائر في أروقة هذه المرحلة على أولى الأعمال المغربية التي أبدعها رواد التشكيل المغربي لأول مرة باستعمال العدة المعروفة للفن التشكيلي.هذه المرحلة، التي ظهر فيها بالمغرب، "الفنان الفرد، الذي لم يعد يعبر عن قيم الجماعة وتخلى عن ذخيرة العلامات والرموز التي كانت عنوان الفنون التقليدية، المرتبطة بالمجالات المعمارية"، تنقسم أروقتها بدورها، حسب الأصناف أو المدارس الفنية التي اشتغل عليها الفنانون التشكيليون المغاربة، في ذلك الزمن، فتجد لوحات موضوعها الواقعية والتعبيرية الحلمية وأخرى غارقة في التجريد.بالوصول إلى الأعمال المنجزة في أواخر الخمسينات، اختار المتحف لمعرضه الأول، لوحات لمريم مزيان ومحمد السرغيني والمكي امغارة، فبعدما استفاد هؤلاء من تكوين على يد أجانب في مدرسة الفنون الجميلة بتطوان التي أسسها الإسبان في 1945 ومدرسة الدار البيضاء التي أسسها الفرنسيون في 1950، أصبحت اللوحات الواقعية لهؤلاء تحمل أثرا أكاديميا.ومن نماذج ذلك، لوحة "طبيعة ميتة"، التي وظف فيها المكي مغارة الصباغة الزيتية على القماش في 1954، ولوحة "امرأة" لبنسفاج سعد، وتعود إلى 1958، ثم لوحة "بروفيل لأحد الأعيان"، رسمها محمد السرغيني في 1958.في الطابق ذاته، عندما تلحظ أن لون جدران الأورقة لم يعد أسود داكنا، إنما أصبح رماديا غامقا، تكون قد انتقلت إلى المرحلة الثانية من رحلة 100 سنة، وهي تلك الممتدة من أواسط الستينات إلى أواخر السبعينات، ومن تعدد المواضيع فيها واختلاطها، يظهر أنها فترة أوج التشكيل المغربي التي طغت عليها النزعة الأكاديمية.فلأن فناني تلك المرحلة، تلقوا تكوينهم بدول أجنبية، تحرروا من محاكاة الواقع وانتقل بعضهم إلى التخيل، واختار البعض الآخر التجريد، في حين اتجه آخرون نحو استغلال مواد غير الصباغة واستكشاف النزعة الفوضوية، ومن رواد تلك الفترة فريد بلكاهية بلوحته "فاس" سنة 1970، و"منازل" و"منزل أسطوري" لمكسيم بن حاييم في 1978، و"أمومة" لأندريه الباز سنة 1965، و"طين وفخار" لحسن السلاوي في 1980.وفي الأروقة ذات الجدران الرمادية الفاتحة، تصل في رحلة "1914-2014.. مائة سنة من الإبداع"، إلى المرحلة الثالثة، الممتدة من 1980 إلى 1990، وخلالها ستكتشف كيف انتقل الفن التشكيلي المغربي نحو "الفرادة"، عندما "تبرم الفنان من نضال الهوية الذي طبع الوعي الفني لسنوات الستينات والسبعينات، وأصبح يعبر عن تطلعات جديدة، بعد الانعتاق من إديولوجية ما بعد الاستعمار".في هذه الفترة، التي توصف بـ"عالم الحلم والرمزية"، وفيها "يختلط الواقع بالخيال حد الالتباس"، لن تكتفي، باعتبارك زائرا، بالنظر نحو الجدران، إنما سيكون لزاما عليك، النظر نحو الأرضية، حيث وضعت أشكال هندسية ركبت أو نحتت من مواد كثيرة، ومنها "قافلة الشاي" لمصطفى بوجمعاوي، التي "أبدعها" سنة 1995 باستعمال الشاي والخشب والقماش والزجاج، كما ستقف مشدوها للحظات أمام "الساعة الرملية" لعمر اليوسفي، وأيضا "ساعة بيولوجية" لعبد الرحيم يابو وهي مجموعة من 12 قطعة صنعت من الخشب والمسامير والنباتات الحية.على الجانب الأيمن لباب الزوار المطل على شارع مولاي الحسن بالعاصمة، تتواصل الرحلة في مرحلتها الرابعة، داخل قاعة عرض كبرى، جدران أروقتها، ملونة بالأبيض الناصع، وتنتهي في المرآب الموجودة بالطابق تحت الأرضي.لحظة فتح أبواب المتحف الوطني لـ"الصباح"، بشكل حصري، كانت أشغال تعليق اللوحات وإنجاز آخر الترتيبات تجري على قدم وساق، فكشف القائمون على المعرض، أن الأعمال المعروضة فيه، تعود إلى الفترة الممتدة من نهاية السبعينات إلى اليوم، "عصر العولمة والهجرة"، الحافل بالتجارب والمواقف الجديدة للفنانين المغاربة، والتي تتوزع بين الصوفية والذاكرة والجسد وصوره والرؤى الاجتماعية والسياسية وتأثيرات التطور التكنولوجي. سخاء خواص وآفاق "إنسانية" إذا كان إخراج المتحف الوطني للفن المعاصر والحديث من عنق الزجاجة الذي كان يقبع فيه، قد تم أخيرا، ولا يخفي القائمون بزمام أمره، أن الفضل كله، في ذلك يعود إلى الإرادة الملكية، فإن المتحف إلى حدود يوم افتتاحه لا يتوفر ولو على "تحفة واحدة" تعود إلى ملكيته، وحتى المعرض الحالي، يبقى مؤقتا، فمن أين جيء بتلك الأعمال؟ببساطة إنه "سخاء عائلات ومؤسسات خاصة"، وكما تشير إلى ذلك البطائق المعلقة بجانب اللوحات، فأغلبها مملوكة لمجموعة من الأسر معروفة لدى المغاربة، وأسماؤها تحيل إلى مسؤولين كبار وشخصيات عمومية، ومنها "عائلة بلفقيه" و"عائلة عبد الحق القادري" و"فؤادي"، وأخرى جيء بها من مجموعات مملوكة لبنك المغرب و"الشركة العامة المغربية" و"التجاري وفا بنك" ومجموعة "أونا" و"مؤسسة بناني للثقافة" و"مركز الفنون المعاصرة" و"وزارة الثقافة".ومع ذلك، فهذه المسألة التي يمكن توصيفها بعبارة "متحف وطني لا يملك تحفا"، لا تبدو مؤرقة للمؤسسة الوطنية للمتاحف، التي أنشئت قبل سنتين من قبل الملك محمد السادس، لتتولى تدبير المتاحف الوطنية بدل وزارة الثقافة، إذ قال رئيسها المهدي قطبي، في استجواب له باللغة الفرنسية، أجري أخيرا، "رويدا رويدا، سيحوز المتحف أعمالا مملوكة له، ومسطرة ذلك تجري بشكل جيد، علما أن خواصا وشركات، ومن منطق المواطنة، تبرعت ببعض الأعمال من مجموعاتها للمتحف".أما عبد العزيز الإدريسي، مدير المتحف، بقدر ما يرى أن تشكيل المتحف لرصيده الدائم من المعروضات "مهمة تأسيسية شاقة"، فقد أكد أن هناك "ثلاثة مصادر لتكوين أي مجموعة متحفية: البحث والتنقيب، والاقتناء ثم الهبات"، وفيما لا يستبعد أن يسلك المتحف "سبيل الاقتناء وفتح المجال أمام الهبات"، نبه إلى أن الأمر لا يعني أن اختيار الأعمال سيكون عشوائيا.ففي نظر المتحدث إلى "الصباح"، "المتحف يضفي صفة النفع العام على العمل الفني، وبالتالي، لا يمكنه أن يعرض أي شيء، دون المرور من عملية علمية رصينة، لفرز الغث من السمين، وتبحث عن أعمال أصيلة لها قيمة جمالية"، ولأن "اختيار العمل الفني الذي سيسكن فضاء المتحف يعني فرضه على المجتمع".ويسعى القائمون على المتحف، إلى تحقيق رهانات، لا تبدو سهلة المنال، وتتجاوز مجرد توفر المغرب على واجهة متحفية من الطراز الحديث، إنما، تحويله إلى فضاء بيداغوجي يستقطب الناشئة، وآلية لتسويق المنتوج الثقافي ودفع الأجيال الجديدة إلى استهلاكه، ولا يخفي عبد العزيز الإدريسي، أن "الرقي بالذوق وصناعة إنسان مغربي سوي، يتذوق الأبعاد الجمالية والفكرية للفن" من بين أبرز هذه الرهانات.وفي علاقة المتحف بالسياحة الثقافية، التي يسعى المغرب إلى جعل الرباط، المصنفة تراثا إنسانيا دوليا، مركزها بالمغرب، فحسب المتحدث "سيكون الهدف تقديم صورة حضارية عن المغرب وإبداعاته وثقافته، وتكسير الصورة النمطية السائدة، من قبيل: أن الإنسان المغربي كايشطح القرودة".ولتحقيق ذلك، قال الإدريسي، إن المتحف "لن يكون مؤسسة للعرض فقط، مما قد يحوله إلى معبد ومقبرة للأعمال الفنية، إنما سيكون مؤسسة فاعلة ومتفاعلة مع الحياة الثقافية بهذا البلد"، ولعل أبسط تجل لذلك، سيكون "فتح المتحف لأبوابه خارج أوقات العمل الإدارية"، وسيحتضن "محترفات من أجل التلقين والتهذيب، موجهة أساسا للأطفال، لأنه بهؤلاء سنستقطب الأسر".وعلى خلاف بقية متاحف المغرب الـ14، والتي اكتست طبيعة إثنوغرافية وأثرية، يتخذ متحف محمد السادس للفن المعاصر، طبيعة مغايرة، حينما يؤكد مديره على اعتباره "متحفا متخصصا ومن جيل جديد، سيتجاوز التساؤلات المعرفية التي أثيرت في المراحل السابقة، وسيدفع المغاربة للتساؤل حول موقع المغرب في الجغرافية الفنية الراهنة". بناء المتحف استغرق 10 سنوات لم يكن مسار خروج المتحف إلى الوجود أمرا هينا، لأنه مر بـ"مخاض طويل"، رافقه جدل ونقاش وتبادل للاتهامات بين أكثر من جهة طيلة أكثر من عشر سنوات. فإذا كان وضع الحجر الأساس لتشييده قد تم في 2006، فإن بداية التفكير في إنجازه انطلقت في التسعينات، عن طريق خلق خلية تفكير بشأن هذا الغرض، ثم ساد الصمت إلى غاية سنة 2000 حينما أثار تسريب معلومات بشأن تكليف وزارة الثقافة لمهندس مقرب من حزب في الحكومة آنذاك بإعداد تصميم المتحف، احتجاجات مهندسين معماريين.وتشير المعطيات المتوفرة، أنه في سنة 2004 تولى، رسميا، المهندس كريم شاقور، عملية إعداد التصميم، وتم توفير غلاف مالي للتشييد بلغ 200 مليون درهم، من قبل وزارة الثقافة وصندوق الحسن الثاني للتنمية الإقتصادية.وعلى الرغم من ذلك، فقد تواتر الحديث على وجود بطء في التشييد، أسفر عن "غضبة ملكية"، وبتأسيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، قبل عامين، خرج المشروع من يد وزارة الثقافة، وبالوصول إلى السنة الجارية، انتهت الأشغال، وشرع في الإعداد لافتتاح المتحف، بتعيين مدير له، وفتح مباراة لتوظيف العاملين فيه، وقع فيها الاختيار على حوالي 14 شابا من الأطر العليا، شرعوا في عملهم منذ يناير الماضي. إنجاز: امحمد خيي

متحف محمد السادس… ميلاد جيل جديد من المتاحف

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الرصاص في مواجهة بالسيوف لإيقاف مروج خمور ببرشيد

انطلاق العمل بالأكياس البيئية بسطات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات