قوافل المساعدات… الوجه الآخر

الضحايا يرحبون بالضيوف ويقدمون دروسا في كرم أهل الأطلس إذا كانت القوافل التضامنية المحملة بالمواد الغذائية والأغطية والملابس وغيرها، مما يحتاجه ضحايا الزلزال الذين فقدوا كل أمتعتهم وقوتهم، تعكس قيم التضامن والتآزر التي تُميز المجتمع المغربي، فإنها كشفت عن وجه آخر، يعكسه حجم الترحيب بالمتضامنين من طرف الضحايا، رغم عمق الجراح، ويقدم دروسا في كرم أهل الأطلس. لكن هذه الصورة الرائعة التي ارتسمت بجبال الأطلس، سرعان ما اهتزت، بعدما ظهر محتالون ونصابون، أرادوا الاغتناء من الإعانات الموجهة إلى المنكوبين، إذ عمد البعض إلى اكتراء مستودعات لتكديس تلك السلع تحت ذريعة، إعادة توزيعها على السكان، في وقت غابت السلطات المحلية، وتحول التضامن إلى فوضى وسرقة ونصب وجشع. إعداد: محمد العوال/ تصوير: عبد الحق خليفة (موفدا الصباح إلى إقليم الحوز) على طول الطريق المؤدية إلى تحناوت ومنها إلى أسني ومولاي إبراهيم وثلاث نيعقوب وغيرها من المناطق المتضررة بإقليم الحوز، تصطف العشرات من السيارات والشاحنات وغيرها من آليات النقل تحمل مساعدات إنسانية موجهة لضحايا الزلزال. كانت الساعة تشير إلى الواحدة إلى الربع ظهرا، نصل إلى مركز تحناوت ونعرج يمينا، ونقطع مسافة تقدر بحوالي كيلو متر واحد، حيث دار الطالب هناك، إذ نجد عدة شاحنات محملة بالمواد الغذائية، تفرغ حمولتها. نستفسر عنصرا من القوات التي تقوم بتأمين إفراغ الحمولات، فيحيلنا على عنصر من السلطة المحلية يوجد في المكان، فيؤكد أن مجموعة من الإعانات القادمة من مناطق مختلفة، يتم إيداعها هنا بدار الطالبة، في انتظار توزيعها على ضحايا الزلزال، مؤكدا في الوقت نفسه أن جميع الضحايا خصوصا بتراب جماعة تحناوت استفادوا من المواد الغذائية وفئة منهم استفادت من الأغطية، في انتظار استفادة الباقي في عملية تشرف عليها السلطات. يشرح لنا عون السلطة طريقة وصول هذه المساعدات، فيقول «هذه المساعدات تصل إلى هنا، من قبل متطوعين ممن يتصلون بالسلطة أو جمعيات مهنية أو مؤسسات عمومية وشبه عمومية»، مشيرا في الآن ذاته إلى أن السلطة لا تجبر المتبرعين على تسليم التبرعات إلى السلطة. يوثرون على أنفسهم نواصل طريقنا نحو جماعة أسني، ونتوجه نحو دوار تكاديرت، حيث نصادف قافلة تضامنية قادمة من القنيطرة. هم مجموعة من الشباب، قرروا المساهمة في هذا العمل التضامني، من خلال اقتناء مجموعة من المستلزمات الضرورية، خصوصا المتعلقة بالأطفال من حليب للرضع وحفاظات ومواد شبه طبية لعلاج الجرحى ومواد للتنظيف. يقول يوسف (أحد المساهمين في تلك القافلة)، العملية كلفتنا حوالي 50 ألف درهم، منها مساهمات لأصدقاء لنا لم يحضروا معنا اليوم، لكن الجميل في هذه المبادرة، هو الفرح الذي تلامسه في عيون سكان هذه القرية، رغم الألم حالتهم النفسية التي تبدو مهزوزة. ويضيف يوسف الذي يشتغل صيدلانيا، «ما أثلج صدري، هو الإيثار الذي تلمسه في هؤلاء الناس، فمثلا الماء المعدني أخبرونا أنهم يتوفرون على كمية كافية منه، كما أن حليب الرضع لم يتسلموه منا، لعدم وجود رضع، وأشاروا لنا بأحد الدواوير القريبة من هنا بها مجموعة من الرضع.. إنه أمر رائع للغاية. دعا سكان القرية يوسف ورفاقه لتناول الشاي، وبدأ الحديث عن الزلزال وما خلفه بالدوار من قتلى وجرحى، فهذا فقد ابنه وذاك فقد والده، وابن ذاك في المستشفى يتلقى العلاج». وفجأة يتحول النقاش حول النشاط الفلاحي لسكان القرية وما تتميز به منطقتهم من إنتاج للفواكه، كالإجاص والتفاح والمشمش وغيرها من الفواكه. قوافل تنعش اقتصاد المنطقة نغادر دوار تكاديرت بعدما ودعنا سكان القرية وضيوفهم القادمين من القنيطرة. توجهنا نحو مركز أسني، الذي تنشط به حركية اقتصادية غير معتادة، يقول امحند، مسير متجر للمواد الغذائية «الحركة التجارية نشيطة هذه الأيام، فالمركز لا يتوقف نشاطه صباح مساء، بفضل القوافل القادمة من كل أنحاء المغرب، تضامنا معنا، ونحن نحاول أن نرد ولو جزءا من ذلك الجميل الذي عبّر عنه كل سكان المغرب تجاهنا». فشهادات الناس هناك، تؤكد أن أهل هذه المنطقة يعاملون زوارهم ضيوفا مرحبا بهم فوق العادة، ولم يستغلوا الظرفية للرفع من الأثمنة «بل على العكس من ذلك، قد يبيعك الشيء بأقل من الثمن المعتاد، ودائما ما تجدهم يرددون عبارة نرجوكم سامحونا.. شكرا لجزيل عطائكم»، يقول محمد أحد سكان دوار قرية أسني. لا حاجة لنا بمواد غذائية اليوم جمعيات المجتمع المدني سواء بأسني أو وركان، عملت على ضبط عملية تنظيم الإعانات المتوصل بها من قبل العديد من المواطنين، منذ السبت الماضي. يقول رئيس جمعية أسني للتنمية، الذي فقد شقيقه خلال هذا الزلزال، «منذ وقوع الزلزال، حاولنا استخراج الضحايا من تحت الأنقاض، قبل تدخل السلطات، بعد ذلك. انتقلنا إلى بناء خيام للنساء والرجال بعيدا عن المنازل التي هُدمت أو تلك الآيلة للسقوط». وبخصوص الإعانات التي يتوصل بها السكان، أوضح رئيس الجمعية «في اليوم الأول، توصلنا ببعض الإعنات القليلة جدا، بعد ذلك بدأت العشرات من القوافل التضامنية تصل إلى القرى هنا». ويضيف «نحن وضعنا خيمة خاصة بالمواد المتوصل بها، وخصصنا لذلك سجلا يتضمن كافة المواد التي بحوزتنا.. نحن اليوم لسنا في حاجة إلى مواد غذائية إضافية، بل نحتاج إلى أغطية وإلى خيام بلاستيكية، لأنه في حال تساقط الأمطار، سيكون الوضع سيئا للغاية». "شفار" بيننا نتوجه إلى وركان، وقبل الوصول إليها بأقل من كيلو مترين، نعرج يسارا على طريق معبدة، فنصادف كميات كبيرة من المواد الغذائية وأفرشة وملابس مستعملة تم إفراغها للتو من شاحنة. نستفسر أحد الشباب، فيخبرنا أنهم قدموا من أكادير باعتبارهم متطوعين لإيصال هذه المواد الغذائية، ويضيف «رئيسة القافلة امرأة مقيمة بالديار الفرنسية، هي التي تبرعت بأكثر من 70 في المائة، وقد توجهت نحو أحد الدواوير لمعرفة حاجياتهم قبل توزيع ذلك». وما هي إلا 15 دقيقة تقريبا، حتى تعالت الأصوات «شفار.. شفار.. شفار»، قبل أن يبدأ عراك بالأيادي بين شباب ومجموعة من أفراد القافلة. صادف الأمر مرور سيارة تابعة للمجمع الشريف للفوسفاط على متنها مستخدمون بالمجمع نفسه رفقة عون سلطة كانوا في طريقهم نحو بعض الدواوير لتفقدها لمعرفة حاجياتها، فتدخلوا لفض النزاع. المفاجأة التي حصلت هي أن الشخص الذي اتُهم باللصوصية، عضو ضمن القافلة، وقد ضبطت بحوزته خيمة بلاستيكية كانت من بين الأشياء المتبرع بها. هذه الواقعة تلخص، يقول ناشط جمعوي، حالة الفوضى التي يعرفها تنظيم القوافل والحصول على التبرعات. فالعديد من الأشخاص، يضيف المصدر نفسه، يقومون بجمع التبرعات، دون حسيب أو رقيب، وتتكرر هذه المظاهر في العديد من القوافل، إذ تحولت العشرات من الأحياء بمختلف المدن المغربية، إلى فضاء لتلقي المساعدات، دون تبيان هوية الأشخاص الذين يقومون بجمع هذه التبرعات، ولا الوجهة التي ستتخذها. جشع ونصب وتتواصل حالة الفوضى التي تعرفها المساعدات الإنسانية، بوقوف العديد من الأشخاص على متن دراجات نارية بمراكز جماعات ضربها الزلزال، ينتظرون قدوم شاحنات أو سيارات محملة بالمساعدات، وإيهامها بوجود دواوير معزولة لم تتوصل بأي مساعدة، وغالبا ما يقرر منظمو الرحلة مسايرة هؤلاء الأشخاص، لتصل إلى دواوير أصبحت تخفي المساعدات المتوصل بها، من أجل تكديس تلك المواد. يقول سعيد الروضي، منظم قوافل مساعدات من الدار البيضاء «الأمر لم يعد يطاق، منذ يوم الأحد، وأنا أقوم بالتنسيق بين متبرعين ودواوير، لكن المشكل سببه ظهور وسطاء وسماسرة، منهم من لجأ إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ووجه نداء بأن دواوير معزولة لم تصلها المساعدات وترك رقم هاتفه، ومن اكتروا محلات تجارية، يقودون إليها قوافل لوضع تلك المواد المتبرع بها هناك على أساس إعادة توزيعها على السكان، لكن الأمر مخالف للحقيقة تماما». ويجزم سعيد بالقول «أقسم بالله أن جميع الدواوير توصلت بالمواد الغذائية، ومن يدعي غير ذلك، فإنه يكذب على المواطنين». ترك الجمل بما حمل في خضم تلك الفوضى وتلك العشوائية التي صارت تؤثث عمليات توزيع الإعانات، ظلت السطات المحلية خارج السياق، إذ لا تتدخل لضبط عمليات توزيع المواد الغذائية، أو إجبار قوافل التضامن على إيداع تلك المواد في مستودعات خاصة، لتوزيعها بشكل معقلن. وأكد ناشط جمعوي بتحناوت، أن السلطة المحلية ظلت بعيدة منذ اليوم الأول في ما يخص تدبير الإعانات المقدمة من قبل المغاربة، خوفا من الدخول في اصطدام مع السكان، وحتى لا يتم اتهامها بحرمان دواوير على حساب أخرى، لكن اليوم الأمر مختلف تماما، فجميع الدواوير تتوفر على مؤونة تكفيها لمدة 15 يوما، وتتوفر السلطات على مواد غذائية كافية وجهتها مؤسسات عمومية ومقاولات صناعية كبرى، وبالتالي صار لزاما تدخل السلطة لوقف هذا النزيف والتبذير الذي سيُفرغ عمليات التضامن الإنسانية من محتواها، يقول الناشط ذاته. هل سيتغير الوضع؟ الجميع هنا يتفقون على أن قوافل التضامن، صارت تحكمها الفوضى، وظهر تجار الأزمات والمآسي ودفع الجشع والطمع بالكثيرين إلى الإساءة لعمل إنساني تضامني خالص، في حين انسحبت السلطات المحلية، وتركت الجمل بما حمل، واكتفت بتنظيم الإعانات المقدمة من المؤسسات. فسكان هذه المناطق لا يحتاجون اليوم إلى مواد غذائية بأكثر ما هم بحاجة إلى الأغطية والملابس الصوفية، لمواجهة فصل الشتاء وبرودة الطقس. فهل ستتدخل السلطات المحلية، لتنظيم القوافل التضامنية، وتحد من التسيب واستغلال الوضع من قبل تجار الأزمات؟ الأيام المقبلة وحدها تحمل بين طياتها الجواب.

قوافل المساعدات… الوجه الآخر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تبرعات المقاولات معفية من الضرائب

نخبة الجيش تتسلق جبال الحوز

مقالات ذات صلة