أوراق من ذاكرة رويشة : رحيل مباغت لفنان أصيل

منذ سنة 1987 كنت رفقة المرحوم محمد رويشة، نتداول بشان مذكرات تكون على لسانه .. وتكون لنا فيها عملية الصياغة فقط.. لكنه يرحمه الله كان يستمهلني ويقول: مازلنا في البداية، وأعدك أننا سنعمل على هذا الموضوع، ويكون العمل شجاعا وصريحا، وسنرفقه بقرص مدمج أو أسطوانة بها أغاني أمازيغية وعربية. . ولن تتردد الشركة في طبع هذا العمل..وأعدنا مطارحته الموضوع مرة أخرى، وكان يخلق الأعذار في كل مرة، وغالبا ما تكون أعذاره إكراهات الوقت والانشغالات وفي أحد نقاشاتنا، اقترحنا عليه يرحمه الله انه كلما جمعتنا جلسة ليلية، وكنا نلتقي يوميا لساعات طويلة أن نحضر أشرطة لتسجيل مختلف أقواله وآرائه وسرد مساره، وكان رده لم يحن الوقت..كان حلمنا أن ننجز معا مذكراته، وأن يقرأها في أول نسخة تخرج من المطبعة. لكن القدر كان أسرع منا، وانتقل رويشة إلى دار البقاء، دون تحقيق هذا الحلم. واليوم هل بمقدورنا أن نتجاسر وندعي أننا وفينا الرجل حقه من خلال الشهادات التي قدمناها عقب وفاته أو من خلال ما نشرناه في أعمدة الصحف الوطنية أسبوعا بعد وفاته؟لا نزعم أن الكتابة عنه إحاطة بجميع نواحي شخصيته.. فالرجل حزمة من الخصال الحميدة، ومجموعة مواقف لم نشهدها عند غيره من الفنانين.. حاول المسؤولون الإقليميون المتعاقبون على عمالة إقليم خنيفرة استمالته بعطايا وهبات.. وكان يستصغر ما يعرض عليه، فيرفض.. من ذلك أحد العمال عرض عليه مأذونية سيارة أجرة كبيرة، فرفضها قائلا: "صمت عمري كله، وبغيتي تفطرني بجرادة"، واستشاره العامل نفسه في موضوع بقعة أرضية فرد عليه رحمه الله قائلا: البقعة جميلة، ولكن لن تستطيع منحي بقعة بالمواصفات التي.. فقال له العامل استطيع ذلك.. جرب فقط... فقال له رحمه الله: أريد ستمائة متر في اكادير فرد العامل لا يجب أن تكون البقعة تابعة لنفوذي.. وعقب رويشة رحمه الله: وأنا قلت لن تستطيع تلبية طلبي.كانت حياته حافلة بالتضحيات والعطاءات.. ما جعله ماركة مسجلة على جبين الفن المغربي .. ملك قلوب الناس بصدقه الفني وتواضعه وتواصله مع جميع الشرائح الاجتماعية..غنى لجميع الفئات بمن فيهم السجناء، ونذكر مشاركته في حفل لفائدة نزلاء السجن المحلي بخنيفرة في بداية التسعينات.. حين نظم نادي الصحافة بخنيفرة الأيام الطبية والفنية لفائدة السجناء.. غنى إلى حدود البكاء، منسجما مع أحاسيس السجناء، وربما يكون استحضر اعتقاله مرارا ظلما وقهرا منذ كان طفلا..هتف السجناء باسمه وهو يغني محنة سلب الحرية. كان احساسه أن مختلف الجماهير وشحته بقلادة الاحترام السرمدي لشخص رويشة الذي كان سفير خنيفرة، وسكانها في مختلف المحافل والملتقيات.يوم 17 يناير 2012، أسلم محمد رويشة روحه للباري تعالى، بعد وعكة صحية ألمت به استوجبت نقله إلى المركب الاستشفائي الشيخ زايد، وخضع للفحوصات والعلاجات وعملية جراحية، لكن يوم 17 يناير 2012، كان يوما موقوتا غير قابل للتأجيل أو الاستئناف.وكان لافتا للانتباه أن جماهير خنيفرة كانت مكلومة في اليوم نفسه مرتين المرة. الأولى حين تناهى إلى علمها وفاة محمد رويشة، والمرة الثانية أن موت رويشة تزامن مع موت السوسدي/ لمشاهب يرحمهما الله..لقد حضرنا كباقي الخنيفرات والخنيفريين جنازة محمد رويشة، ولم نكن وحدنا .. فقد حضرت جماهير غفيرة من مختلف أنحاء المملكة، بل رأينا مواطنات ومواطنين من الجالية المغربية، أبوا إلا أن يشاركوا في توديع رويشة إلى مثواه الأخير. وكانت جنازة مهيبة بكل المقاييس والمعايير.. حضرها الوزير ورئيس ديوانه ورئيس الجهة والعامل ورئيس المجلس الاقليمي والحضري، حضرها الأثرياء والفقراء.. بل وحضرها المهمشون الذين شاركوا في تنظيم الجنازة، وهم يهللون ويكبرون..هكذا توحدت جماهير خنيفرة في البكاء السري والعلني لفقدان عزيز من العيار الثقيل .. لأنه كان الابن البار لمدينة، اعتبرها "أمه الثانية"، فخرج إخوانه وأخواته الخنيفريون لتوديعه بكل انضباط .. بكل حسرة ومرارة. لم يتدخل أحد لتجييش جموع المودعين، لكن حضرت مكانة الفنان وطيبته وأريحيته.. وكانت جنازته بحق جنازة رجل عظيم. إعداد: أحمد هيبة

أوراق من ذاكرة رويشة : رحيل مباغت لفنان أصيل

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

من الملاعب إلى كراسي المسؤولية : مجيد...رياضي خدم التنس والعمل الجمعوي

إرهاب تحت قبعة «الجهاد» : الصعود والسقوط المدويان لحركة طالبان (أفغانستان)

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات