أحمد البورزكي… نجم من فجر الاستقلال

المطرب الذي كان يصفق له يهود البيضاء وهو يغني عن "فلسطين" قبل اثنتين وعشرين سنة رحل عن عالمنا الفنان أحمد البورزكي، في غفلة من أصدقائه ومحبيه الذين ما زالت فئة كثيرة منهم تتذكر هذا الفنان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس خلال عقدي الخمسينات والستينات، قبل أن يغادر الحياة وبالكاد يتذكر اسمه فقط المكتوون بلوعة الطرب المغربي الأصيل، أو ممن ما زالت آذانهم تحتفظ برنين نبرات صوته الدافئ المنبعثة من تسجيل قديم لأغنياته التي ظلت، حبيسة رفوف الإذاعات بعد أن طواها النسيان كما طوى صاحبها. إعداد: عزيز المجدوب أحمد البورزكي هذا الاسم الذي ما زال البعض يتذكره بنوع من الحنين والحسرة، في الآن نفسه، على فنان شكل ظهوره خلال مستهل عقد الخمسينات في المشهد الغنائي المغربي، حدثا فنيا بامتياز، بحكم أن البورزكي كان من أوائل المطربين المغاربة، بالمفهوم العصري للكلمة، الذين أحيوا السهرات الحية أمام الجماهير التي كانت متعطشة حينها لسماع أغنية عصرية تحمل بصمة مغربية خالصة تميزها عن ما كان سائدا من ألوان طربية شرقية. وما زال قدماء البيضاويين يتحدثون بفخر واعتزاز عن ابن المدينة القديمة البارّ، الذي ظل مرتبطا ارتباطا صوفيا بهذا الفضاء إلى حين رحيله، فكيف لا والعطاء كان متبادلا بين الطرفين. فالمدينة القديمة بالنسبة إلى أحمد البورزكي لم تكن فقط مجرد تجمع عمراني شكل النواة الأولى للدار البيضاء، بل هي أكثر من ذلك، فهي معقل المقاومة ومشتل للأدباء والفنانين، وبها يوجد زقاق شبهه الكثيرون بشارع محمد علي بمصر الشهير باحتضانه لأهل الطرب والموسيقى، وتقابله في المدينة القديمة زنقة "جامع الشلوح" التي كانت هي الأخرى أشهر رقعة في العاصمة الاقتصادية احتضنت حوانيت ودكاكين بيع الآلات الموسيقية التي كان يقصدها الفنانون والموسيقيون وهناك يلتقون في ما بينهم، وفوق كل هذا أنجبت أسماء العديد من الفنانين الذين تأثروا بهذه البيئة الفنية، أشهرهم الموسيقار أحمد البيضاوي، الذي نشأ وترعرع هو الآخر بحي بوطويل بعمق المدينة القديمة. أما أحمد البورزكي فقد رأى النور سنة 1935 بدرب "العميين"، ولحسن حظه أن والده كان مولعا بجمع أسطوانات أشهر نجوم الغناء في ذلك الوقت، وهو الذي بدأ حياته فلاحا قبل أن يتحول إلى ملاك عقاري بعد استقراره بالمدينة القديمة، وكثيرا ما كان ينظم حفلات أسبوعية ببيته رفقة الأصدقاء للاستماع إلى روائع الموسيقى في وقت كان المذياع والفونوغراف حكرا على عائلات محدودة. من خلال هذه السهرات المتتالية تشبع الطفل البورزكي بعشرات الأغاني التي حفظها، وظلت تفعل فعلها في وجدانه فكانت عاملا حاسما في توجهه نحوه عالم الفن، خاصة أنه كان يجيد أداء ما يحفظ بفضل صوته الرخيم الذي ظهر تميزه في سن مبكرة. قصة ولع بالموزاة مع هذا الجو حرص الوالد على تربية ابنه تربية رصينة، وألحقه بمدرسة "موغادور" مع أبناء الأعيان، حيث تابع دراسته الابتدائية، وبهذه المدرسة اكتشف البورزكي أول مرة آلة "البيانو" إذ حدث أن سمع صوتها ينبعث من بيت مدير المدرسة الفرنسي، فوقف قرب الباب مشدودا إلى هذا الصوت الذي ملك عليه كيانه، وكانت صاحبة العزف هي زوجة المدير الفرنسية، إلى أن أخذه النوم وهو جالس قرب الباب يستمع إلى الموسيقى، قبل أن تكتشف الخادمة الأمر فأخبرت أهل البيت بذلك، وخلال اللحظة نفسها كانت أسرته تبحث عنه بعد أن تأخر في العودة إلى المنزل. فما كان من المدير وزوجته إلا أن عجبا لأمر هذا الطفل الذي دفعه ولعه بالموسيقى إلى نسيان نفسه وأسرته، فنصح المدير والد البورزكي بأن يدفع ابنه إلى تعلم الموسيقى وتشجيعه على المضي قدما في درب الفن، وأشار عليه بأن يلحقه بالمدرسة البحرية حيث يوجد هناك شخص كان يصنع الشباك وفي الوقت نفسه يعلم الطلبة الموسيقى، ولم يكن هذا الشخص سوى "باحمد" الملقب "باتشيشة" وهو والد الموسيقار أحمد بنشهبون الشهير بأحمد البيضاوي. المقاومة بالغناء والتحق أحمد البورزكي بعدها بمدرسة حرة باسم "مدرسة سي امحمد التويمي" سرعان ما سيتم إغلاقها من قبل إدارة الحماية الفرنسية، بعد أن تبين لها أنها كانت تحتضن أنشطة الوطنيين، فلم يؤد هذا الإغلاق سوى إلى تزايد الحماس الوطني لدى تلاميذها الذين قرروا الرد عليهم بتنظيم نشاط وطني متكامل تزامنا مع عيد العرش. وكان أحمد البورزكي على رأس التلاميذ الذين أعدوا هذا النشاط الذي كان حافلا بالعديد من الفقرات الفنية، قدموا فيها الأناشيد الحماسية والأغاني الوطنية التي كانت مشهورة آنذاك مثل "يا ملك المغرب" أو "مغربنا وطننا روحي فداه". كما حظيت هذه الأنشطة باهتمام رجال الحركة الوطنية بالمدينة القديمة ودعمهم، منهم شجاع الدين وأحمد صدقي وإبراهيم ولماس وغيرهم. وبرز اسم الطفل أحمد البورزكي بشكل لافت خلال هذه الأنشطة الوطنية، وهو ما دفعه إلى تعلم آلة العود عن طريق السماع والتمارين اليومية، كما بدأ يشتهر في أوساط سكان المدينة القديمة بإجادته غناء قطع محمد عبد الوهاب، فضلا عن تميزه في فن تجويد القرآن. مسافر زاده النغم في نهاية الأربعينات ستتاح للبورزكي فرصة السفر إلى مرسيليا بفرنسا، إذ سيرافق صديقا لوالده إلى هناك بهدف صقل مواهبه في الموسيقى، كما سيتعرف على العديد من الأصدقاء المغتربين منهم المغاربة والمصريون، على وجه الخصوص، الذين أبدوا إعجابهم بهذا الفتى الذي كان أشبه بمرجع في الطرب الشرقي من فرط ما كان يحفظ الكثير من أغاني رواده. لم يمض البورزكي بفرنسا إلا فترة قليلة حتى دبر له أصدقاؤه المصريون رحلة إلى الإسكندرية على متن باخرة، فكان من أوائل الفنانين المغاربة الذين هاجروا إلى الشرق، رغم أنه في تلك الفترة لم يكن إلا مجرد هاو، إلا أنه حصل على شهرة واسعة في أوساط المصريين بفضل تمكنه من أداء أغاني عبد الوهاب. لكن سرعان ما استبد الحنين بأحمد البورزكي فقرر العودة إلى المغرب الذي كان، بداية الخمسينات، يغلي بأحداث متسارعة، ويعيش مخاض التحول نحو الاستقلال بعد أن شددت إدارة الحماية الفرنسية الخناق على الوطنيين، فوجد البورزكي نفسه منخرطا في العمل الوطني وخلايا المقاومة. وخلال الفترة نفسها تعرف البورزكي على مجموعة من الأسماء الفنية بالدار البيضاء منهم محمد الشيني الذي ساهم إلى جانبه في تأسيس جوق عصري للموسيقى ضم في عضويته كلا من محمد بنصالح والمعطي عامر والفنان الشرادي وقاسم الناياتي، والفنان عبد الرحمان الويري. وكانت أول فرصة لهذا الجوق الذي اختار اسم "جوق الوداد" مناسبة زفاف لاعب كرة القدم الشهير، آنذاك، الشتوكي، وشارك معهم تلك الليلة المرحوم إبراهيم العلمي عازفا، وكان نجم الليلة هو أحمد البورزكي الذي لمع اسمه مطربا رفقة هذا الجوق. وتوالت المناسبات التي اشتغل فيها البورزكي إلى جانب هذا الجوق وأجواق أخرى، وكانت أشهر الفضاءات التي غنى فيها هي سينما "مدينا" و"فيردان" اللتين عاشتا أوج مجدهما من خلال السهرات والأمسيات التي كان البورزكي نجمها، إضافة إلى العروض الأخرى التي كانت تقدمها فرقة البشير لعلج. مباشرة بعد الاستقلال التحق البورزكي بإذاعة الدار البيضاء ملحنا ومطربا، خاصة أنه قدم أولى أغنياته وتحمل اسم "المغرب العربي" وهي من كلمات البشير لعلج الذي كتب له أول أغنية عاطفية له وهي قطعة "يا الساكن ف قليبي" التي شارك بها في إحدى السهرات بمدينة فاس فلاقت نجاحا باهرا كانت معه مفتاح شهرته. وقدم البورزكي أزيد على 60 قطعة غنائية، كما لحن للعديد من الأصوات الغنائية منها الفنان أحمد السقاط والراحلة لطيفة أمال والحاجة الحمداوية التي قدم لها أغنيتي "جيبو لي حبيبي" و"أنت هي السمرا"، فضلا عن اشتغاله في مجال إنتاج وتسجيل الأسطوانات الغنائية إلى حين رحيله في ماي سنة 2000. لعروس يحكي قصة "سبوتنيك" يقول الشاعر والسيناريست حسن لعروس إن الراحل أحمد البورزكي كان واحدا من أشهر نجوم الغناء المغربي خلال فجر الاستقلال، وأحد رواد الأغنية العصرية بالبيضاء. ويتذكر لعروس، في حديث مع "الصباح"، أن حفلات البورزكي التي كان يحييها بالقاعات السينمائية الشهيرة بالعاصمة الاقتصادية، كانت تعرف إقبالا منقطع النظير، بل إن المطرب البيضاوي الذي اشتهر في بداياته بإتقانه لرائعة "فلسطين" لمحمد عبد الوهاب، كان ينتزع تصفيق يهود البيضاء وهم يتجاوبون معه وهو يغنيها بسينما "فيردان". ويضيف لعروس أن علاقته بالبورزكي بدأت منذ الطفولة بحكم نشأتهما معا بالمدينة القديمة للبيضاء، قبل أن تتوطد وتتطور إلى تعامل فني في العديد من الأغاني التي لحنها البورزكي وأداها بصوته أو أسندها لأصوات أخرى. ومن أشهر الأغاني التي غناها البورزكي من كلمات لعروس أغنيبة بعنوان "يا حبيبي القمر طلع"، والتي يحكي عنها مؤلفها أنها جاءت من وحي جلسة شاعرية على رصيف "المون" بالبيضاء، في إحدى ليالي نهاية الخمسينات، حيث كان لعروس مولعا بصيد السمك وكان البورزكي يرافقه هناك. ويتابع لعروس أن الجلسة امتدت إلى ما بعد منتصف الليل، حين أطل القمر من خلف السحب وأرسل أشعته الفضية فوق سطح الماء، وهنا نطق لعروس بعبارة "يا حبيبي القمر .. والنهار اللي مشى ما يرجع" فانتفض البورزكي فرحا بالجملة وهو يقول له "الله إنه مطلع أغنية مناسب". فأكمل لعروس ما تبقى من الأغنية في اليوم الموالي وسلمها للبورزكي الذي انهمك في تلحينها قبل أن ترى النور بعد أسابيع ويسجلها للإذاعة فلقيت شهرة كبيرة لدرجة أن الجماهير كانت تلقبها ب"سبوتنيك"، نسبة لأول قمر اصطناعي أرسل إلى الفضاء، وهي تطلبها للبورزكي في حفلاته. وتوالت أعمال لعروس والبورزكي، منها أغنية "إياك يا غالي" و"آش بغيتي عندي" و"فين يا ناس نصيبو" التي غنتها أمينة إدريس وغيرها من القطع التي اشتهرت في الستينات.

أحمد البورزكي… نجم من فجر الاستقلال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بندقيتان وذخيرة تسقط سائقا بوجدة

عامل أسا يحقر قرارا للداخلية

مقالات ذات صلة