الصباح تستعيد تفاصيل الأيام الدموية التي مهدت لاحتلال الشاوية تحل الأسبوع الأول من غشت، الذكرى الخامسة عشرة بعد المائة لأحداث الدار البيضاء الدموية، التي مهدت لدخول الاستعمار الفرنسي بالمغرب انطلاقا من بوابة البيضاء والشاوية. في هذا الملف تحاول "الصباح" استعادة جوانب من هذه الأحداث التي تشكل محطة مهمة من تاريخ المغرب، بالاعتماد على بعض الروايات الفرنسية منها بالأساس كتاب "في الدار البيضاء من 1 إلى 7 غشت" للطبيب فليكس بروني بترجمة الباحث بوشعيب الساوري، وكتاب "التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب.. حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية" للباحث والمؤرخ علال الخديمي. إعداد: عزيز المجدوب في صيف 1907 كان الدكتور فليكس بروني في ريعان شبابه، في الخامسة والثلاثين من عمره، طبيبا عسكريا على متن الباخرة "غاليلي" التي تولت قصف مدينة الدار البيضاء صباح الخامس من غشت من السنة نفسها، ضمن الفرقة التي نزلت من الباخرة لاقتحام المدينة، بعد أن أمطرتها الباخرة الحربية بوابل من القذائف وكانت مقدمة لواحدة من أفظع الجرائم الحربية التي عاشها المغرب وعاصمته الاقتصادية خلال القرن العشرين. ورغم أن الواقعة سبق أن كتب عنها صحافيون وقادة عسكريون وكتاب فرنسيون، إلا أن أغلبهم سايروا الرواية "المحرفة" والموجهة التي روجت لها الدبلوماسية الفرنسية آنذاك، إلا أن رواية بروني تكتسي أهمية خاصة بحكم أن راويها كان عنصرا شاهدا ومشاركا في الوقائع التي كتب عنها ووصفها بدقة، مع الاختلاف في ما إذا كان قد توفق في نقل الوقائع بأمانة وموضوعية وتجرد، أم أن وظيفته طبيبا عسكريا قد تحكمت في توجيه روايته في ظرفية استعمارية كان الكل منخرطا فيها في أداء واجبه فيها؟ إشراف فرنسي على الجمارك تطرق بروني في كتابه لمعظم التطورات التي تسببت في حادث مقتل العمال بالمرسى التي روجت الرواية الفرنسية بأنها كانت السبب في الهجوم على المرسى يوم 30 يوليوز 1907، إذ أشار الطبيب العسكري إلى أن الأسباب الحقيقية للحادث على رأسها جلوس المراقب الفرنسي بالديوانة، وهو ما عكسته تفاصيل الأحداث التي أوردها منذ فاتح غشت إلى يوم 7 منه، يوما بيوم بل ساعة بساعة، إذ تحدث عن وقائع تخريب الدار البيضاء التي ارتكبتها البارجة "غاليلي" أولا ثم سفن الأسطول الحربي الفرنسي. وتعكس رواية بروني الضغوط الرهيبة التي مورست على السلطات المحلية، في مقدمتها مولاي الأمين، الذي قبل جل المطالب الفرنسية، والقائد أبو بكر بن بوزيد الذي قدم مؤونة ضخمة من ثيران وأكباش وفواكه إلى البارجة الحربية، ومع ذلك أسر وعوقب على مواقفه الوطنية. ويصف بروني الأجواء الممهدة للأحداث قائلا "... وجدت بعض الإصلاحات التي فرضها مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906)، وأساسا الرقابة الجمركية والشرطة، عداء الطبقات المغربية العليا، إذ تعرضت ثرواتها للضرر، بما أن ميناء البيضاء كان الأغلى في كل الساحل، فقد عانى بعنف بسبب الانقلاب المضاد للتجار المتضررين، والاستياء ومساعي التمرد، مما زاد من ضعف الحاكم سي بوبكر بن بوزيد الذي حل منذ شهور محل الحاج حمو، وكان ابنه قائد قبيلة أولاد حريز، يأمل في خلافة الأب". ويضيف بروني "لم يتوقف حمو المتحسر على خلق العراقيل لخصمه من أجل إظهار عدم قدرته على حماية الدار البيضاء من فتن قبائل الشاوية المجاورة. باعتباره أمينا سابقا للجمارك، تمكن سي بوبكر من الحصول على ذلك المنصب عبر المال، اعتقد أنه يمكنه تهدئة مثيري القلاقل عبر توزيع بعض الأموال على أشدهم عتوا، لكنه لم يعمل سوى على مضاعفة الأطماع، ومنذ ذلك الحين صارت المدينة معرضة لأن تكون ضحية للنهب، وطالبت الهيأة القنصلية بأكملها في مناسبتين يومي 7 أبريل و12 ماي 1907 بخلع القائد الذي وصفه السيد مالبيرتي، قنصل فرنسا، بالخطر العمومي". ويتابع "قد تشاور السلك الدبلوماسي بطنجة، بالإجماع، الملتمس نفسه إلى المخزن الذي أجاب بأن القائد يحظى بثقة السلطان، وكان من المستحيل استبداله، وكان مولاي لامين، عم السلطان، قد أرسل رفقة مجموعة عسكرية صغيرة إلى منطقة الشاوية، حتى يتمكن من احتواء القبائل الأكثر هياجا، لكن للأسف، لم تكن محلة الأمير لا قادرة على التصرف ولا على زرع الخوف في صفوف القبائل". ويواصل بروني "أرسلت القبائل يوم 28 يوليوز مندوبين إلى القائد لإنذاره بإلغاء المراقبة الفرنسية للجمارك، وإيقاف أشغال الشركة الفرنسية لبناء الميناء وتهديم السكك الحديدية التي كانت تنقل المواد من المقلع إلى حائل الأمواج الذي كان في طور البناء، لمواجهة هذه التهديدات ماطل سي بوبكر وناقش واستغرق بعض الوقت، وفي اليوم الموالي، في الخامسة مساء 29 غشت ذهب إمانويل نوفيل (صهر نائب القنصل الفرنسي) للتحري حول نواياهم إلا أنه لم يتمكن من الحصول على أي شيء". ويردف "في يوم الثلاثاء 30 يوليوز لم يتلق مبعوثو القبائل الجواب الموعود في ذلك اليوم من قبل القائد، لكن منذ الصباح شرع بعض المتعصبين في تهييج السكان جهارا. تعالت بالمسجد مواعظ "المدعو" الحسين الزياني ضد المشاريع النصرانية، وبالشوارع تم إيقاف المارة بخطاب شديد اللهجة من قبل ولي كان يلبس أسمالا..." وتطورت الأحداث سريعا زوال اليوم نفسه بعد خروج قاطرة من الورش من أجل نقل عربات المقلع الموجود على بعد كيلومتر تقريبا من أسوار المدينة، في اتجاه الموقع الحالي لمحطة القطار الميناء، حيث كانت توجد مقبرة سيدي بليوط الممتدة، وانتهت الأحداث بشجار في الورش بين المغاربة والفرنسيين، ذهب ضحيته تسعة عمال أوربيين (3 فرنسيين و3 إسبانيين و3 إيطاليين) كما ذهب ضحيته عمال مغاربة. بعد هذا الحادث سيطر زعماء الانتفاضة على الوضع بالمدينة وقد طرد المراقب الفرنسي من الديوانة وطلب من الجالية الفرنسية مغادرة المدينة فلجأت إلى السفن الراسية بالمرسى. ورغم وصول البارجة الحربية "غاليلي" يوم 1 غشت واتخاذ قائدها إجراءات عدائية فإن الهدوء ظل شاملا واتخذت الحياة العادية مجراها الطبيعي، قبل أن يصدر وزير الخارجية الفرنسي تعليمات لسفراء فرنسا يوم 4 غشت، ليخبروا الحكومات الأجنبية بأن الحكومة الفرنسية قررت إرسال قوة بحرية وقوات إنزال إلى الدار البيضاء مكونة من 3 آلاف رجل، وأنها طلبت من إسبانيا أن ترسل بدورها قوات إلى الدار البيضاء بدعوى إعادة النظام والأمن وضمان حماية الرعايا الأجانب. بارجات حربية في الشواطئ وقررت فرنسا إرسال البارجة "غاليلي" بالإضافة إلى "لوكوندي" و"دو شايلا".. فيما أرسلت إسبانيا المدمرة "ألفارو". ومنذ تاريخ قدوم البارجات الفرنسية ظلت راسية في المياه الإقليمية المغربية بدعوى مراقبة الأوضاع، لكن التغير الكبير وقع في 2 غشت من 1907، إذ سيطلب الفرنسيون من الجيش المغربي السماح بإنزال صناديق كبيرة وشحنها إلى القنصلية الفرنسية وادعائهم بأن الصناديق تحتوي على مواد غذائية من أجل الدبلوماسيين، فيما كانت تحمل أسلحة. في فجر الخامس من غشت 1907 "كوموندو" من مشاة البحرية الفرنسية من 66 فردا ينزلون من البارجة غاليلي وينطلقون نحو مقر القنصلية الفرنسية في المدينة ويقعون في اشتباك مع قوات الجيش المغربي التي كانت تحمي القنصلية فيستشهد 15 جنديا وضابطا مغربيا ويصاب 6 جنود من الكومندو الفرنسي الذي كان دليله اليهودي المغربي "موشي زاغري". قصف وتدمير بعد ذاك بدأ القصف العنيف على أحياء المدينة باستثناء الحي الغربي الدبلوماسي، حيث مقر القنصلية الفرنسية التي أصبحت مقر العمليات لاحتلال المدينة. وفي غمرة القصف تبدأ عملية الانزال من البارجات الفرنسية والإسبانية يوم 6 غشت، 45 جنديا من "غاليلي" و75 من "دوشيلا" و44 من فوربين و20 من البارجة الاسبانية الفارو وشقت هاته القوات طريقها بصعوبة بالغة تحت نيران الجيش المغربي في اتجاه مقر القنصلية الفرنسية، ما أدى إلى مقتل جنديين فرنسيين وجرح 19.. كان القصف عشوائيا واستمر طيلة يومين كاملين. بفعل القصف الوحشي المتواصل طيلة أيام على المدينة، عمد سكانها إلى الاحتماء بالسور الجديد حيث توجد "محلة" مولاي الأمين، تبعا لاتفاقه مع القنصل الفرنسي، بلجوء المدنيين من السكان إلى السور الجديد، وعندما تم تجميعهم هناك بجانب جموع المحلة السلطانية، صبت عليهم القذائف المحرقة، فحولت جمعهم إلى ركام من الجثث المفحمة، وصف ابن زيدان هذه المجزرة قائلا: "وفي عشية يوم الأربعاء 7 غشت، أطلقت البارجتان الفرنسيتان قنابلهما على الملتجئين بالسور الجديد...."، وينضاف وصف الصحافي بوردون للحادث، (بوردون، أيام في الدار البيضاء): "إن ما وضحه لي من بعد- يقصد أحد المدنيين الفرنسيين الذي شارك في قتل الكثيرين من السكان- ويدعى ميرسي. إنها المجزرة الأكثر فظاعة والأكثر بشاعة..." يضيف الصحفي متأثرا بهول المجزرة: "... لا، لا لقد استيقظ قلبي ولن أبين مدى ذلك. هذا الجندي المخزني الذي فقد وجهه، وذو الفم المتورم الملتوي، الذي أزال له القصف ثلاثة أرباع رأسه. وهذه المرأة الحامل التي ولدت هناك وسط الرعب والفزع، وسقطت ميتة ورأسها محني إلى الأمام..". إن حدث غشت 1907 بالدار البيضاء والشاوية هو واحد من أهم الأحداث في تاريخ المغرب الحديث لعدة اعتبارات، فبالإضافة إلى أنه شكل بداية الاحتلال الفعلية فإنه قد منح المغرب والمغاربة فرصة نبذ خلافاتهم القبلية والهامشية وتشكل حس وطني امتزج فيه الجهاد البطولي بمعرفة شعبية ما زال صداها في ذاكرة ووجدان الدار البيضاء والشاوية ، مما يشكل ملحمة ضائعة في ما تم تأليفه أو في الأغنية والحكايات الشفوية. مشهد للبيضاء إثر تدميرها (خاص) القوات الفرنسية تحيط بالمدينة (خاص) جثث البشر والدواب في الأزقة (خاص)