fbpx
حوادث

الخبرة الجينية … إنصاف أم إضرار؟

اعتمدتها محكمة النقض في إثبات الفساد لتكون سيفا على رقاب الأطفال

أثار الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض، في شأن اعتماد الخبرة الجينية ضمن وسائل إثبات الفساد والخيانة الزوجية، إذ اعتبرها دليلا وحجة علمية لا يتسرب الشك إلى مدى قوتها الثبوتية، ويمكن اعتمادها دليلا علميا في جرائم الفساد والخيانة الزوجية، إضافة إلى وسائل الإثبات المحددة حصرا في الفصل 493 من القانون الجنائي، نقاشا واسعا في شأن تداعياته على الطفل الناجم عن تلك العلاقة، على اعتبار أنه بإثبات الفساد يكون الطفل ابن زنا بذلك تنفك الروابط بينه وبين الأب البيولوجي، في شأن إلحاق النسب والنفقة والميراث، وقد فتح الباب حول تأويلات ومخرجات قد يستغلها البعض في الإفلات من تحمل المسؤولية.

إنجاز: كريمة مصلي

القرار الصادر عن محكمة النقض بغرفتين مجتمعتين اعتبر أن اعتماد الدليل العلمي المتمثل في الخبرة، يشكل قرينة قوية وكافية على وجود علاقة جنسية بين الطاعن والضحية، نتجت عنها ولادة يمكن خلالها نسبة واقعة العلاقة الجنسية إلى الطاعن، معتبرة أن محكمة الموضوع باعتمادها تقرير الخبرة الجينية، تكون قد مارست السلطة المخولة لها قانونا في تفسير وتأويل النص القانوني في ضوء المستجدات والاكتشافات العلمية الحديثة، التي أصبح معها الدليل العلمي وسيلة إثبات قطعية، وآلية من آليات تفسير وتأويل النص القانوني لا يمكن للمنطق السليم أن يتغاضى عنه متى كان حاسما، وهو قرار استند على الحجة العلمية، إلا أنه غيب حسب المهتمين في هذه الواقعة حقوق ذلك الطفل، خاصة أن المغرب قطع أشواطا مهمة في اعتماد المواثيق الدولية لحماية الأطفال، إلى جانب النصوص القانونية المحلية، ويكون قد غيب الجانب الاجتماعي. وهنا تطرح علامات استفهام كبرى هل الخبرة قررت لاكتشاف جريمة الفساد أم لحماية الطفل، خاصة أن المواثيق الدولية كلها تكرس حماية خاصة للطفل الذي لا ذنب في هذه العلاقات ويتحمل بالمقابل وزرها مدى الحياة، خاصة أن قرارا سابقا لمحكمة النقض في شأن “ابن الزنا” أقرت فيه أنه لا يرتبط بالأب البيولوجي لا بالبنوة ولا بالنسب، وأن الحكم بثبوت بنوة طفل غير شرعي يخالف الشرع والقانون، بعد أن كانت محكمة أولى درجة في طنجة قد انتصرت اروح القانون في سابقة من نوعها في تاريخ القضاء المغربي، إذ أصدرت أول حكم أقر مبدأ حق الطفل المولود خارج إطار الزواج في انتسابه لأبيه البيولوجي، وحق الأم في تعويض عن الضرر الذي لحقها من جراء إنجاب ناتج عن هذه العلاقة، وهو الحكم الذي أخرج موضوع الأمهات العازبات إلى دائرة الضوء، خاصة في الشق المتعلق بنسب أطفالهن، والذي طالما كان يلقى انتقادا شديدا ويهاجم بأن من شأن ذلك أن يساهم في انتشار ظاهرة الأمهات العازبات والإنجاب خارج مؤسسة الزواج.

ثبوت البنوة
الحكم الصادر اعتمد على عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب، مقرا حق الطفل الطبيعي في معرفة والديه البيولوجيين. واعتبرت المحكمة في تعليل حكمها ثبوت البنوة بين الطفلة وبين المدعى عليه اعتمادا على نتائج الخبرة الطبية التي أثبتت العلاقة البيولوجية بينهما، مميزة في هذا الصدد بين أحكام النسب والبنوة، ورفضت المحكمة طلب المدعية بإلزام المدعى عليه بتحمل نفقة البنت، وعللت المحكمة قرارها بأن النفقة من آثار النسب الشرعي، لكنها لجأت إلى إعمال قواعد المسؤولية التقصيرية لتلزم الأب البيولوجي بدفع تعويض للمدعية نتيجة مساهمته في إنجاب طفلة خارج إطار مؤسسة الزواج

فصول تتطلب إعادة النظر
ينص الفصل 148 من مدونة الأسرة على أنه لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية، ما يعني أن الإقرار بأن الطفل غير شرعي بنهي التزامات والده اتجاهه من نسب ونفقة وميراث، في حين أن العلاقة الزوجية تعتبر سند ذلك الإثبات وإن ازداد الوليد في السنة الموالية لفراق الزوجين أو بعد ستة أشهر من زواج، كما تنص على ذلك المادة 154 من المدونة نفسها أن نسب الولد يثبت بفراش الزوجية، إذا ولد لستة أشهر من تاريخ العقد وأمكن الاتصال، سواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا، وإذا ولد خلال سنة من تاريخ الفراق، وهنا في حال الشك فإن الابن ينسب لأبيه الشرعي، بنص القانون، ولا يعتد بالخبرة الجينية في هذه النوازل للتأكد من الأبوة البيولوجية، في حين أنه في نوازل الانجاب خارج مؤسسة الزواج فإن الخبرة الجينية تكون السيف الذي تقطع به تلك العلاقة والأبوة الشرعية، رغم ثبوت الأبوة البيولوجية.

البعد الحمائي
في إحدى الدوريات الصادرة عن محمد عبد النباوي، عندما كان رئيسا للنيابة العامة، دعا فيها إلى تثبيت هوية أطفال الشوارع من خلال تفعيل صلاحيات مسؤولي النيابات العامة في إطار التسجيل بسجلات الحالة المدنية، والشيء نفسه في تشخيص الوضعية الصعبة للأطفال وتقديم ملتمسات من أجل التصريح بإهمال الأطفال عندما تقتضي وضعيتهم ومصلحتهم ذلك، وهي الدورية التي أتت في إطار الاهتمام الملكي بقضايا الطفولة وحرصه على النهوض بأوضاع الطفل وتنشئته السليمة، إضافة إلى أن الاهتمام بالطفولة يعد مقتضى دستوريا، كما نص على ذلك الفصل 32 من الدستور بتأكيد التزام الدولة بتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية.

وأشارت دورية رئاسة النيابة العامة أنها تستمد مشروعية حماية الأطفال من خلال الانخراط في تنفيذ السياسات العمومية للدولة، وتقاطعها مع السياسة الجنائية، والصلاحيات المخولة لها في مجال حماية حقوق الطفل في جميع الوضعيات المنصوص عليها بمختلف القوانين، ومن بينها مدونة الأسرة التي نصت في المادة 54 منها على مختلف حقوق الأطفال على أبويهم سيما حماية حياتهم وصحتهم منذ الحمل إلى حين بلوغ سن الرشد، والعمل على تثبيت هويتهم والحفاظ عليها واتخاذ كل التدابير الممكنة لنموهم الطبيعي، بالحفاظ على سلامتهم الجسدية والنفسية والعناية بصحتهم وقاية وعلاجا، بالإضافة إلى اعتبار الدولة مسؤولة على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية تلك الحقوق وضمانها، واعتبار النيابة العامة مسؤولة عن مراقبة تنفيذ الأحكام.

منزلة بين المنزلتين
قال أشرف منصور جدوي، المحامي بهيأة المحامين بالبيضاء، إنه إذا كانت الشريعة الإسلامية والسنة النبوية والفقه الاسلامي لدى جمهور العلماء قد حسمت في مسألة أبناء الزنا أو الأبناء غير الشرعيين في أنهم لا يمكن أن ينسبوا إلا إلى أمهاتهم ولا ينسبون إلى آبائهم، إذ أن أولئك الأبناء مقطوع نسبهم، فإنه وبالمقابل وكما يقال فإن الشرع متشوق للحوق الأنساب، فمتى أقر رجل بنسب طفل مجهول النسب فإن إقراره يلزمه ولا يمكن لأحد استفسار ذلك الأب عن كيفية حصول الاتصال الجنسي هل كان في علاقة زوجية شرعية أم غير ذلك.

واثار المحامي أنه بالمقابل تثار مسألة التكفل والإنفاق على ذلك الطفل، فإذا كان ذلك الطفل هو نتاج خطأ لشخصين فليس من العدل في شيء أن تتحمل الأم البيولوجية وحدها وزر وعاقبة ذلك الخطأ دون الأب البيولوجي، و”في هذا المقام لا ندعو إلى مخالفة الثوابت الثابتة بنصوص قطعية الدلالة سواء كانت قرآنا أو سنة نبوية، بل ندعو إلى منزلة وسطى بين المنزلتين، هذه المنزلة الوسطى هي ألا تخالف قوانينا الشريعة الاسلامية أي بقاء ذلك الطفل منسوبا لأمه ومن غير نسبته إلى أبيه البيولوجي، لكن وبالمقابل وأمام عدم وجود نص شرعي يمنع تحميل ذلك الأب إن رضاءً أو قضاءً تكاليف ما يحتاجه هذا الطفل فإنه يتعين اعتبار تلك الولادة كصورة من صور المسؤولية التقصيرية”، مشيرا إلى أنه إن كان الخطأ في القانون المدني هو كل فعل أو امتناع يأتيه الإنسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح به القانون وتبعا لذلك يتعين عليه جبر الضرر بالتعويض، فإن الخطأ في المقام هذا خطأ مشترك ولا يتعين أن تتحمل وزره المرأة وحدها بل حتى الرجل. فإذا كان الخطأ بينهما مشتركا فإن المسؤولية كذلك وجب أن تكون مشتركة، وإشراك طرفي العلاقة في المسؤولية يتمظهر في أن المرأة تتحمل عبء حضانة وحفظ هذا الولد وأن ذلك الأب البيولوجي يتعين تحميله نفقة ذلك الابن من مأكل ومشرب وملبس وتطبيب…

وأضاف المحامي أنه في هذه الحالة نكون أمام منزلة وسطى لا هي خالفت الشريعة الإسلامية بنسبة ذلك الطفل إلى والده البيولوجي، ولا هي لم تراع مصالح ذلك الطفل بإسناد نفقته إلى والده البيولوجي من غير نسبته إليه، إذ ربما إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن ذلك منبئ بالعثور على طفل حديث الولادة متخلى عنه على أرصفة الطرقات أو عتبات المساجد أو حاويات الأزبال، فتلك المرأة مهما بلغ جلدها وصبرها قد تعجز على تحمل المسؤولية لوحدها.

الحكم انتصر للقانون وغيب حق الطفل
أثار قرار محكمة النقض سواء المتعلق بالخبرة البيولوجية لإثبات الفساد أو الذي يخص رفض إلحاق الابن غير الشرعي بأبيه عددا من الانتقادات على محطات التواصل الاجتماعي، إذ اعتبره البعض نكسة حقوقية وعلمية في المغرب، لمستقبل الأطفال لأن الهيأة القضائية عندما استندت لحرمان طفل على حديث نبوي لا يمكن حتى التأكد من صحته أو تفسيره. فما ذنب الطفل؟ وكيف يتم الحكم على جنين لا حول ولا قوة له وإدانته بـ”العهر” قبل أن يرى النور؟ أليس الإسلام دين عدل؟ فأين العدل في أخذ طفل بذنب والديه؟ وأين العدل في تحميل مسؤولية جنين مشترك لأمه فقط، وإعفاء الأب من جميع واجباته، حتى أبسطها كالاعتراف ببنوة الطفل؟.

واعتبر البعض أن الحكم لم يتوافق مع الشروط الاجتماعية والعلمية الحالية وغير منطقي من وجهة نظر قانونية أيضاً. فالمحكمة اعتمدت في قرارها الأول على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب. ومن بين الحقوق التي تضمنها، حق الطفل الطبيعي في الانتساب إلى والديه البيولوجيين. وواجب القضاء منح الأولوية لمصلحة الأطفال في النزاعات المتعلقة بالنسب، وحقه المطلق في أن يسجل عقب ولادته فورا، وأن يكون له بصفة عامة الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.

أما المؤيدون لقرارات محكمة النقض فيعتبرون أن الأحكام انتصرت لروح القانون، إذ يجب ألا تطغى العاطفة في مثل هذه المواقف، لأن الدين والقانون حسما بشكل قطعي في شأن ابن الزنا، وأن الفصل 400 من مدونة الأسرة ينص بشكل صريح على أن كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف، أي أنه يقول بكل وضوح إذا كان الحل موجودا في مدونة الأسرة، فلا حاجة للقضاة لكي يرجعوا إلى المذهب المالكي والاجتهاد الفقهي، فالأولى بالتطبيق هو النص الموجودة في القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات

نود أن نشكركم على زيارتكم لموقعنا. لكننا نود أيضًا تقديم تجربة مميزة ومثيرة لكم. لكن يبدو أن مانع الإعلانات الذي تستخدمونه يعيقنا في تقديم أفضل ما لدينا.