في حضــرة الشيــخ والسلطــان

كانت العلاقة بين المتصوفة من جهة، ورجال السلطة من جهة أخرى، في معظم مراحل تاريخ المغرب موسومة بكثير من الحذر والريبة، وكانت في أغلبها علاقة تنافر وتباعد ومواجهة، فالحكام كانوا يدركون مقدار الحضور القوي للتيار الصوفي داخل الوعي الفردى والجمعي للمغاربة وتجذره في بنيات المجتمع، بالمقابل ظل موقف رجال التصوف من السلطة وممثليها محكوما بمبدأ "الانقباض عن السلطان" ، وحرصهم على تجنب تقاربهم مع المؤسسة الحاكمة ومحاشاتها احتياطا في الدين وخوفا من الشبهة التي تعكر صفة القرب من الله.وشكل المتصوفة على مدار فترات تاريخ المغرب قوة سياسية واجتماعية ضاغطة لها من القدرة على منافسة السلاطين والملوك في الكثير من رموز شرعيتهم السياسية والدينية، الأمر الذي فرض على المؤسسة الحاكمة تبني استراتيجية شاملة أدرجت شيوخ التصوف ضمن قوى المعارضة التي شكلت خطرا داهما عليها، وعلى أمنها واستقرارها، واعتماد أساليب المواجهة العنيفة والإجراءات الردعية التي نهجتها السلطة تجاه أشياخ التصوف المشهورين قصد اجتثاث التيار الصوفي، وتجلى بطش المؤسسة الحاكمة واضطهادها للمتصوفة في المراقبة الصارمة والمتابعة، والملاحقة والإبعاد والاعتقال والسجن والاغتيال.في هذه الحلقات التي نقدمها لقراء "الصباح"، سنبرز مظاهر التوتر بين أقطاب التصوف والحكام، وحرص هؤلاء على اتخاذ حسابات دقيقة في اختيار أساليب التعامل لمواجهة قوى المعارضة لإظهار أن سلطة الدولة فوق أي نفوذ، وأن لا أحد يعلو على سلطة الحاكم، إنه عنف الدولة، و"سنوات الجمر والرصاص" بصيغة الماضي السحيق.تقديم وإعداد: الدكتور المصطفى الريس إدريس بن عبد العالي... الشيخ الذي اغتيل رميا بالرصاص في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، أسس الشريف الإدريسي بن عبد العالي طريقة صوفية بمنطقة زعير أطلق عليها اسم "الطريقة العالية" نسبة لاسم أبيه عبد العالي، وألف كتابا في التعريف بطريقته عنونه ب "الأسرار الربانية في أذكار الطريقة العالية"، ثم أسس زاوية بالرباط وثانية بالدار البيضاء.أثارت أنشطة وتحركات الشريف الإدريسي بن عبد العالي السياسية والطرقية مخاوف رواد الحركة السلفية والسلطان محمد بن يوسف الذي لم يتردد في إصدار أوامره للمحكمة الشرعية بالرباط لتنظر في شأن شيخ الطريقة العالية. وبعد أن استعملت المحكمة كل الإجراءات الشرعية أصدرت قرارها بضرورة إقفال الزوايا العالية في كل من مدينتي الرباط والدار البيضاء، ثم أصدر السلطان محمد بن يوسف ظهيرا يمنع تأسيس أي طريقة جديدة بغير إذنه وعدم جواز إعطاء هذا الإذن إلا بشروط تدخل في إطار ما اشترطه العلماء والشيوخ المريدون. وقد أسهم صدور هذا الظهير سنة 1946 في بداية توتر العلاقة بين الإقامة العامة الفرنسية و محمد بن يوسف، لكن السلطان صمم على تطبيق مضمون الظهير، رغم رفض سلطات الاحتلال الفرنسي نشره بالجريدة الرسمية.ومع مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وفي سياق توتر العلاقات بين الإقامة العامة والسلطان محمد بن يوسف ، سعى المقيم العام "ألفونسو جوان" وخلفه الجنرال "كيوم" إلى الدعاية بوجود تيار معارض وغير متعاطف مع توجهات السلطان والحركة الوطنية، كان يضم في صفوفه قواد القبائل وباشوات المدن وشيوخ الزوايا والطرق الصوفية، فشرعت الإقامة العامة في تحريضهم بدعوى أن كل المطالب التي تقدم بها السلطان للحكومة الفرنسية لم تكن سوى تعبير عن طموحات حزب الاستقلال، وأنها تسعى في الواقع إلى إلغاء مصالح وامتيازات الأعيان الكبار. من هذا المنطلق، ستحتل الزوايا والطرق الصوفية الصدارة ضمن أولويات سلطات الإقامة في الأزمة التي خيمت على علاقة القصر بالسلطات الاستعمارية الفرنسية، وتفطنت هذه الأخيرة إلى كون الظرفية أصبحت مواتية للزج بشيوخ الزوايا في معترك الحياة السياسية ، من خلال إسناد مهام جديدة لهم بهدف الحد من نفوذ حزب الاستقلال وإضعاف الشرعية الدينية والرمزية للسلطان والنيل من سيادته، في أفق تهييء الظروف المناسبة لإضفاء الشرعية على قرار عزله عن العرش، ويعني ذلك توسيع دائرة المواجهة والصراع المباشر بين الإقامة العامة والزوايا والطرق الصوفية من جهة، والسلطان المدعوم من قبل الحركة الوطنية من جهة ثانية.ضمن هذا السياق، أوعزت الإقامة العامة إلى بعض شيوخ الزوايا بتأسيس تنظيمات حزبية مواليه لها، وذلك لملء الفراغ الذي أحدثه حظر أنشطة الأحزاب الوطنية وإغلاق مقراتها ، ومنع صحفها من الصدور والتداول ،فأعلن الشريف الإدريسي بن عبد العالي سنة 1952 عن تأسيس "حزب الأحرار الديمقراطي" الذي ضم في صفوفه أتباع الطريقة العالية وثلة من اليهود والفرنسيين، وكان الهدف من تأسيس هذا الحزب على النحو الذي أكدته جريدة "La liberté" النظر في مختلف المصالح الدينية والقومية التي تعود على الأمة والشعب بالخير والسعادة ... ونشر العلم بشتى الوسائل والطرق حتى لا يبقى الجهل ضاربا أطنابه في الأمة، وبث الأخلاق بين طبقاتها و التحلي بالفضائل واجتناب الفظاعة والرذائل، والسعي في الاتحاد وربط صلة الوصل بين الطبقات والأفراد حتى لا تبقى أوصال الأمة منفكة فيتأتى لها إذ ذاك أن تكون أمة شريفة حية معتبرة في نظر الأمم المتمدنة مستحقة لكل تبجيل واحترام." ، و"السعي وراء وحدة فرنسية مغربية تتأسس على مبادئ الديمقراطية والمساواة والإخاء التي تروج لها الدولة الحامية " . و بعد عودته من فرنسا بدعوة من شخصيات نافذة في السياسة الخارجية الفرنسية ، وبدعم من الجنرال "كيوم " وبونيفاس" وفالا "، أصدر الشريف الإدريسي بن عبد العالي جريدة" La liberté" بالدر البيضاء سنة 1952. واتخذها لسان " حزب الأحرار الديمقراطي"، على خلفية تكوين جبهة إعلامية مضادة للصحف الوطنية. وهكذا كانت جريدة La liberté تصبو نحو تأسيس سلوكات إعلامية قريبة من الخطابة الأدبية ومن التقارير الإيديولوجية ، التي تلغي من حيث الشكل الإخراج الصحفي من مانشتات وصور وأعمدة وغيرها ، ولا تعبر من حيث المضمون سوى عن التوجهات العامة التي يرسمها حزب الأحرار الديمقراطي وزعيمه الشريف الإدريسي بن عبد العالي ، ومن هنا تكمن خطورة العمل الصحفي المؤدلج والموجه في كونه لا يصور الوقائع كما وقعت ،وإنما يعبر عنها من خلال وجهة إيديولوجية مسبقة.وكانت افتتاحيات جريدة " La liberté" ومقالات الرأي والتحاليل السياسية والتعاليق على الأحداث المنشورة على أعمدتها تستهدف التشويش على المشروع الوطني الداعي إلى الاستقلال والنيل من شخص السلطان والدفاع عن مبررات الإبقاء على الوجود الفرنسي بالمغرب كل ذلك كان كافيا ومقنعا للوطنيين والفدائيين لوضع اسم الشريف الإدريسي ضمن لائحة الشخصيات المستهدفة حيت تعرض للاغتيال رميا بالرصاص بالقرب من منزله الكائن بدر الكبير بالدار البيضاء في فاتح مارس سنة 1955، والمصير نفسه آل إليه كاتبه الخاص عمر بن يعيش الذي اغتيل قبله بتاريخ ثاني نونبر1953. يوسف الساكت

في حضــرة الشيــخ والسلطــان

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مسابح مكناس... ملاذ المحتمين من لهيب الحر

القاعات السينمائية البيضاوية : سينما شهرزاد... اسم من ألف ليلة وليلة

مقالات ذات صلة