“خاصنا كمامة للمعدة”

يحرص نور الدين في رمضان "الحجر الصحي" على وضع الكمامة، ليس خوفا من فيروس كورونا، بل للجم حاسة الشم ومتعة الاشتهاء، إذ يقاوم إغراء الرائحة الفريدة لـ"الشباكية" بالشوارع، أو مشهد الأجبان البيضاء فوق عربات الجائلين، أو "البريوات" المحشوة بمواد مجهولة المصدر، لكنها لذيذة. في الحجر الصحي يمنع نور الدين نفسه من التجول والتنزه نهارا، إلا للضرورة، إذ منذ أن تقاعد عن العمل أصبح مدمنا على اقتناء كل أنواع السلع والمواد الغذائية في رمضان، حتى اشتهر بين أفراد أسرته ب"الملهوط"، مما اضطره إلى استغلال الحجر الصحي من أجل "إصلاح غرائزه"، كما يقول مبتسما. كل حواس نور الدين معطلة، كما عطلت الأقدام وفرضت عليها الراحة بالمنازل ليلا، ومن يتحدى الفيروس سيجد نفسه خلف قضبان السجن بتهمة خرق القانون، إنها القاعدة الذهبية للمتقاعد الذي أصبح يجلس على أريكة شرفة المنزل، رافضا الخروج نهارا. اشتهر نور الدين، قبل تقاعده، ب"ترمضينته"، فمعاركه لا تنتهي، وعدوانيته لاتطاق، فرمضان بالنسبة إليه كان يكتسي خصوصية اجتماعية جديرة بالانتباه، وتتمثل في سلوكات وعادات وتقاليد متناقضة، أحيانا، تستحق التأمل، ومنها الشجار والسب والقذف، قبل الأذان، ثم اقتناء كل ما تشتهي الأنفس نهارا، والتخلص منها ليلا في حاوية النفايات. لا يعني رمضان، بالنسبة إلى نور الدين، الإقلاع، من الفجر إلى غروب الشمس، عن الأكل والشرب والجنس، أو تغيير رتابة النمط اليومي للحياة، بل اقترن بتغيير جذري في أسلوب حياته، خاصة مع فيروس كورونا. في رمضان الحالي، لن يتسابق في الطرقات، أو يسب ويلعن البعض لأتفه الأسباب، ولن يستمتع ب"اللهطة" واقتناء كميات كبيرة من اللحوم والدواجن وكل أنواع السلع، بل سيجد نفسه حريصا على تطبيق مقولة "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود"، كما لن يتفاخر بدعوة أفراد عائلاته إلى موائد الإفطار المزركشة، والتقاط صورها ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي. لن يهرول نور الدين مباشرة بعد الأذان إلى المسجد، حاملا حبات التمر، أو يخرج إلى صلاة التراويح بملابسه البيضاء و"الصلاية" على الأكتاف، وتأبط قنينات الماء و"الفوطة" لمسح العرق من كثرة الاكتظاظ، ففيروس كورونا منع كل هذه العادات. أصبح نور الدين حكيما، فرمضان يكشف حالات نفسية واجتماعية لفئات كثيرة تستحق الدراسة والبحث، بل إن ظواهر الإسراف و"اللهطة" لها انعكاسات على الاقتصاد، كما تشير إلى ذلك تقارير مؤسسات رسمية، فالأسر تعلن حالة استنفار، ويتهافت الناس على الأسواق، بحثا عن ما لذ وطاب الذي ينتهي جله في القمامة، علما أن الإنفاق الزائد لا يقتصر على فئة بعينها، فالفقراء يقترضون لإرضاء نزوة الأكل والأغنياء يتباهون بموائد الإفطار والعشاء والسحور. خالد العطاوي

“خاصنا كمامة للمعدة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

رمضان ... انحراف عن المقاصد الروحية

لغز إضراب 20 يونيو 1981

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات