فكيك … صراع التاريخ والجغرافيا

«الصباح» تكشف سبب غضب الفلاحين المغاربة وتنفض الغبار عن وثائق وخرائط تاريخية كانت عناصر القوات المسلحة الملكية والدرك الحربي تتراءى من بعيد وهي تراقب الحدود. قادني رفيقي ابن المنطقة وأحد المطلعين على أحجارها وترابها، إلى مكان قريب في ملك عائلته، يسمح بحكم موقعه بالاطلاع على باقي مكونات المائة وستين هكتارا من النخيل الكثيف الشامخ المدعوة «العرجة»، والتي احتلت فجأة واجهة الأحداث العالمية، حتى أصبحت العرجة وفكيك اسمين عالميين. تصطف على الطريق القوات النظامية المغربية لمنع أي انزلاقات قد تولدها الأحداث، لكن تفاصيل اللقاءات مع أهل فكيك كانت توحي بالكثير، الذي فيه مزيج من الحزن وخيبة الأمل والتشبث بالتاريخ، مع القليل من الترقب والأمل في الوصول إلى الأفضل أو أقل الخسائر. حاولت «الصباح» أن ترصد هذه التقاطعات من شهادات أهل البلد ومن عيونهم التي كانت تقول الكثير... إنجاز: محمد المرابطي (موفد الصباح إلى فكيك) عندما كان عدد من الفلاحين يقومون بتشذيب نخيلهم والاعتناء بحقولهم داخل الضيعات الخصبة بمنطقة العرجة الواقعة تحت نفوذ قصر أولاد سليمان، أحد القصور السبعة لواحة فكيك الكبرى، تقدمت إليهم عناصر من دورية عسكرية جزائرية تابعة لحرس الحدود للقطاع العسكري لبشار، واستفسرت عبد الرحمن عبو وابن عمه مصطفى عبو، عن سبب وجودهما في هذه المنطقة التي قالوا عنها جزائرية، أخبراها العسكريين أنهما في أرض مغربية وأن الوادي الذي يتحدثون عنه هو في الجهة الأخرى من المنطقة، وأنهما يتوفران على الوثائق التي تثبت ملكية المغاربة لهذه الأرض من القديم، كان ذلك يوم السادس عشر من فبراير الماضي، لينصرف الجنود الجزائريون، ويعودون بعد ذلك بيومين ليلتقوا بعناصر من حرس الحدود المغاربة، دون أن يتسرب أي شيء عن محتوى اللقاء. بداية الأزمة مباشرة بعد ذلك، دخلت الأوضاع مرحلة أخرى عندما قام واحد وعشرون جنديا جزائريا بنصب خيمة على الضفة اليسرى لوادي العرجة الرئيسي في المنطقة، ليتلوها نصب خيمة أخرى في اليوم الموالي مع رفع العلم الجزائري قربهما، وكان واضحا أن الجميع في انتظار حلول قيادات عسكرية جزائرية. بعد ذلك بأيام حضر سبعة وثلاثون جنديا جزائريا رفقة مسؤول عسكري كبير برتبة جنرال من القطاع العسكري بشار، التابع للناحية العسكرية الثالثة التي يوجد مقر قيادتها بمدينة بشار، وتضم قطاعات بشار وتندوف وأدرار، وبحضور نائب عن والي ولاية بشار المجاورة للمنطقة، جرى التحاور مع فلاحي المنطقة ليتم إخبارهم أنه يتوجب عليهم الاتصال بالمسؤولين المغاربة، وبعد استفسار الفلاحين المغاربة كما رواها ل"الصباح» عبد المالك بوبكري، صاحب ألف وخمسمائة نخلة بالعرجة ،أخبرهم الجنرال أنه لا يمكن له التحدث معهم بالأمر المطلوب منهم ، ولكن عليهم التوجه لسلطات بلادهم للاستفسار عن سر يوم ثامن عشر مارس المقبل ، وكان الجنرال الجزائري يخاطب الفلاحين بأسمائهم الشخصية، ويلح على الفلاحين بضرورة الاتصال العاجل بسلطات بلادهم. بعد الاتصال بالسلطة المغربية، فهم الجميع أنه يجب إخلاء المنطقة قبل ثامن عشر من مارس كأجل أقصى، الأمر الذي أثار ارتباكا كبيرا وصدمة لدى الرأي العام المحلي، الذي خرج فورا للاحتجاج على الجميع، وظهرت السلطة المغربية بالموازاة مع ذلك على الأرض في سلسلة من الإجراءات الاحترازية الأمنية حرصا على منع أي انزلاقات غير محسوبة، وفي الوقت نفسه شرعت السلطة في شخص باشا فكيك وقائد قيادة عبو لكحل، في التحاور مع المتضررين، بحضور أعضاء المجلس النيابي للجماعة السلالية لقصر أولاد سليمان، الأكثر تضررا من واقعة العرجة، التي أصبحت منذ اليوم في نظر الجميع أرضا جزائرية من ناحية الجغرافيا ومغربية من حيث التاريخ. أذعن الفلاحون للأمر وشرعوا في إخلاء المنطقة واقتلاع ما أمكنهم اقتلاعه من أدوات للطاقة الشمسية والمحركات الفلاحية والشتلات الصغيرة القابلة لإعادة الغرس، وأبواب بعض الضيعات، في حين عجز الجميع عن القيام بإثبات مغربية المنطقة بالحجة، كان الوقت قد فات فعلا ،فقد ضاعت استثمارات ضخمة من أكثر من ثلاثين ألف نخلة تنتج أصنافا ذات جودة عالمية مثل تمور" أزيزة " وأصنافا أخرى لا تقل أهمية عنها مثل" بوفقوس "و"العصيان" ،كما ضاعت البنايات والمنشآت السكنية المحدثة هناك ،حتى أن مستثمرا مغربيا من الجالية المغربية بالخارج كان قد استثمر أخيرا أزيد من ثلاثمائة وخمسين مليون سنتيم في ضيعته،لتنطلق المسيرات الاحتجاجية والوقفات التضامنية في ظل اندهاش مفاجئ ،وفي وقت دعم الجيش الجزائري فرق حرس الحدود العاملة بالمنطقة، وذلك بإحداث تمركز احتياطي لها خلف جبل العرجة، بعيدا عن الأنظار، ويستمر في تموين عناصر الواجهة زوال كل يوم بواسطة شاحنات الدرك الجزائري ،أمام تساؤلات للفلاحين والمالكين المتضررين ،حول كيف ومتى أصبحت منطقة العرجة جزائرية؟ ظهائر ومراسيم وعقود بيع يتوفر أهل فكيك، مثل كل أهل الصحراء عامة على كميات من الوثائق التاريخية ، وكل الذين التقتهم "الصباح» كانوا بالفعل يبرزون الظهائر والمراسيم وعقود البيع والشراء والاستغلال ذات الطابع التاريخي، والتي تثبت أن منطقة العرجة كانت مغربية منذ قرون، هذه المنطقة التي تبعد عن فكيك بحوالي سبعة كيلومترات ،إلا أن الوقائع التاريخية تكاد لا تسمع في الوقت الراهن بسبب التطورات المتلاحقة التي وقعت فجأة على رأس فكيك، الواقعة في أقصى شرق المغرب والتي تبعد عن وجدة بـ 360 كيلومترا ، المدينة الصغيرة الهادئة التي يحدها من الجنوب والشرق الحدود المغربية الجزائرية، والمشتهرة بواحات النخيل وبإنتاج أنواع جيدة ونادرة من التمور. هذا الموقع جر على فكيك في خمسين سنة الأخيرة توترات، أججتها الأوضاع السياسية التي تشهدها الجزائر سواء على المستوى الداخلي أو في علاقاتها مع المغرب منذ أن حصلت على استقلالها في 1962، وظلت المنطقة تشهد توترات مستمرة بين الجزائر والمغرب ، فقد اندلعت حرب بين الدولتين في أكتوبر 1963 بسبب الخلاف حول هذه المنطقة، وعرفت باسم "حرب الرمال"، انتهت في 20 فبراير 1964، بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار وتحديد منطقة منزوعة السلاح بين البلدين، ثم تلتها اتفاقية أخرى في 1972 تتعلق برسم الحدود ، شابها حسب بعض المؤرخين، ومنهم الراحل محمد العزوزي والأستاذ عكاشة برحاب، المهتم بتاريخ المغرب الشرقي، وكذا الأستاذ عبد الرحمان حرادجي أستاذ الجغرافيا بجامعة محمد الأول بوجدة ،غموض فسره كل حسب قراءته لظاهر الوثائق وعلاقة ذلك كله بعمق الأحداث وتلاحقها . اتفاقية 1972 حسب المؤرخين أكد عكاشة برحاب، أستاذ التاريخ بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية سابقا، والذي اشتغل كثيرا على تاريخ المنطقة الشرقية ، في تصريح ل"الصباح»، أن المشكل الأساس في ترسيم الحدود المغربية، مضيفا أن الراحل المؤرخ محمد المعزوزي تنبّأ بحدوث مشكل العرجة بين المزارعين المغاربة والجزائريين منذ أكثر من 15 سنة، عندما نشر كتابا باللغة الفرنسية في الموضوع تحت عنوان “نصف قرن من أجل الوحدة الترابية”، وذلك باعتباره كان ضمن أعضاء اللجنة المغربية - الجزائرية التي رسمت خط الحدود سنة 1971. ويضيف الأستاذ برحاب في إحدى مقالاته أنه ورد في الصفحة 169 من الكتاب سالف الذكر ما نصه: “إن رسم خط الحدود على الأرض بمنطقة فكيك يطرح مشكلتيْن أساسيتيْن: أولاهما رسم خط لتقسيم بعض المناطق الفلاحية وبعض واحات النخيل، رغم أن مساحتهما صغيرة، وأن ذلك سوف يكون محط نزاع بين مستغلين مغاربة وجزائريين، ويتعلق الأمر بالخصوص بالموقعيْن ملياس والعَرجة»، وعزز المرحوم محمد المعزوزي النص بخريطة طوبوغرافية، ومن المعلوم أن الجزائر كانت سباقة إلى المصادقة على اتفاقية الحدود ونشرها في الجريدة الرسمية سنة 1973. أما المغرب فلم ينشرها في الجريدة الرسمية إلا في 1992، وتعمّد الطرفان عدم نشر الخرائط المرفقة بنص الاتفاقية، وهذا أمر يطرح كثيرا من التساؤلات، يقول الأستاذ عكاشة برحاب، مضيفا أنه حاول إيجاد تفسيرات لتأخر المغرب في المصادقة على الاتفاقية المذكورة، في كتابه “المغرب والجزائر، تاريخ جوار صعب”، وحاول رصد المشاكل التي قد تترتب عن الاتفاق المذكور، خاصة أن ذوي الحقوق من المغاربة لم يتم التشاور معهم أو إشعارهم بمضمون الاتفاق الذي يخص منطقتهم، وهذا ما جعل الكثيرين منهم يجهلون مصير أملاكهم التي تقع على جانبي خط الحدود. وإثر توقيع اتفاق 1972، صرح عبد الهادي بوطالب، في كتابه “نصف قرن من السياسة”، بأن المغرب “سلّم للجزائر التراب المختلف عليه”.ويتابع الباحث عكاشة برحاب، أنه من الملاحظ أيضا أن تأخر المغرب في المصادقة على الاتفاق المذكور كانت له تبعات سلبية، خاصة أن الفصلين الخامس والسادس نصا على أن تقوم لجنة مشتركة بوضع معالم حجرية للحدود في أجل أقصاه ثلاث سنوات، ومن استعجل الأمر بعد انقضاء هذه المدة يباشر وضع المعالم الحجرية حسب خط الحدود الموصوف في المادة الأولى، وهو ما قامت به الحكومة الجزائرية في حينه وفي غياب الطرف المغربي، خاصة بعد الخلاف بين الجانبين بشأن موقعي العرجة وملياس، وهذا من جملة ما يشير إليه كذلك الأستاذ عكاشة برحاب في كتابه "من قضايا الحدود بين المغرب والجزائر" المنشور بدار ابي رقراق سنة2004. التنسيق بين السلطة وممثلي المتضررين على الأرض، كان من المنطقي أن تتدخل السلطات المحلية في شخص باشا المدينة، بعد الإنذار الجزائري للفلاحين ، فبادرت إلى فتح حوار مع المجلس النيابي للجماعة السلالية لقصر أولاد سليمان ، المتضرر الأكبر من واقعة العرجة من خلال لقاءين ، وفي هذا الباب التقت "الصباح» مفاوضين اثنين، وهما عبد الله بنمومن عضو المجلس النيابي المذكور والحاج عبد السلام عبو أحد كبار أعيان المدينة، واللذين صرحا أن اللقاء مع السلطات المحلية في شخص عامل الإقليم وباشا المدينة ارتكز على : 1 - إجابة المتسائلين عن تفاصيل النازلة، باعتبار أن السلطة المحلية يفترض أنها على اطلاع أكبر بخصوص الملف وكشف ما يجري. 2 - تعويض الفلاحين والمستثمرين المتضررين ، باعتبار أن الضرر مادي ومعنوي وهو إرث تاريخي ليس للفلاحين وحدهم أو لقصر أولاد سليمان وفكيك، بل للمغرب كله لأن الأرض هي جزء من تاريخ وجغرافيا المغرب. وحسب عبد الله بنمومن وعبد السلام عبو باعتبارهما ينوبان عن أبناء القصر المتضرر ومن ذوي الحقوق، فإن جواب العامل جاء دليلا على أن الأمر يتعلق بالسيادة وبالاتفاقيات، وأن القرار الجزائري هو ظرفي ومؤقت، كما يضيف العامل حسب ممثلي القصر المذكور، أن تعويض المتضررين أمر محسوم، متماشيا مع اقتراح المتضررين بأن يشمل التدخل المستوى الاستعجالي قبل المستويات الأخرى، وسيشمل المغروسات والعتاد والنخيل، مع تحديد نوعية المغروس وأهميتها الإنتاجية والمعنوية والرمزية، (هناك نخيل تجاوز عمره قرنا من الزمن)، ثم هناك تفاوت في أنواع إنتاجات النخيل من الأجود إلى الجيد إلى العادي ، وهو عموما سيكون محل خبرة من ذوي الاختصاص، كما يقول ممثلا قصر أولاد سليمان في تصريحهما ل"الصباح"، وتماشى ذلك مع توالي التعزيزات الأمنية في الطريق إلى منطقة العرجة في وقت لاتزال فيه الاحتجاجات الموازية متواصلة داخل مفاصل المدينة الصغيرة ، حتى أصبحت ساحة 20غشت ،المطلة على قصر اولاد سليمان مقرا يوميا للاحتجاج وتتبع كل جديد ،بواسطة حلقيات يتم تنظيمها من طرف شباب المنطقة لتبادل الأخبار والإعلان عن كل خطوات مقبلة . فكيك وبشار والقنادسة يستمر الشيوخ الفكيكيون في تذكر الأيام التي كانت فيها المدينة محجا لأهل بشار وتيندوف والقنادسة وبني ونيف (هي مناطق كانت مغربية قبل أن يلحقها الاستعمار الفرنسي بالجزائر)، ولم يكن يعرف الناس جنسيات أو هويات بعضهم البعض بسبب التشابه الشديد في السحنات واللكنات والملابس كذلك، يوم كان الفكيكي ينتقل بين هذه المناطق كما يتنقل بين أحياء المدينة الواحدة لتقاربها، في حين يتسوق ساكن بشار وتندوف من فكيك كما يتسوق من حي من أحياء مدينته، وفي ظل سيادة السلطة المغربية آنذاك، قبل أن تتدخل السياسة في رسم واقع آخر يتم تداوله بأسى وتحسر، يجعل من فكيك مدينة معزولة بالحدود السياسية والطبيعية ، في حين تستمر الاحتجاجات الشعبية في التعبير عن غضبها وتستمر السلطة على المستوى الرسمي في الترقب وعقد اللقاءات مع الأهالي وذوي الحقوق والأعيان، ويستمر الجمعويون والحقوقيون داخل وخارج المغرب في تأجيج صور الاحتجاج بالوقفات داخل بعض المدن الأوربية، وأمام بعض سفارات المغرب، وإصدار البيانات التضامنية ،في انتظار ما سيسفر عنه مستقبل المنطقة.

فكيك … صراع التاريخ والجغرافيا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

غموض يكتنف مصير مليار و600 مليون

لكمة تنهي حياة خمسيني

مقالات ذات صلة