«الصباح» تروي حكاية 28 مستخدما قضوا غرقا داخل مصنع سري لإنتاج أقمصة ماركات عالمية عاشت طنجة، أول أمس (الاثنين)، يوما حزينا وأجواء جد مؤثرة خيم عليها البكاء والألم، لبست خلاله المدينة ثوب الحداد حزنا على فراق 28 شابا وشابة لقوا حتفهم غرقا داخل وحدة صناعية سرية للنسيج، التي اختار لها مالكها مقرا بمرأب تحت أرضي بإحدى الفيلات السكنية الواقعة بمنطقة البرانص وسط المدينة، بعد أن غمرتها مياه الأمطار الغزيرة والسيول التي تسربت بكميات كبيرة إلى داخل المصنع، نتج عنها غرق أغلب العمال الذين كانوا موجودين وقتها بالمرأب المنكوب، فيما نجا 17 آخرون من موت محقق، إذ نقلوا إلى قسم المستعجلات بالمستشفى الجهوي محمد الخامس بالمدينة، وما زال أغلبهم يتلقى العلاجات الضرورية بأقسام العناية المركزة. إنجاز: المختار الرمشي (طنجة) / تصوير: (أيت الرموش) إلى حدود الساعة الثامنة صباحا، كان كل شيء عاديا داخل وحدة صناعية مختصة في إنتاج أقمصة لماركات عالمية، تقع بحي إيناس التابع لمقاطعة الشرف، ويشتغل بها، حسب تصريح لإحدى العاملات الناجيات، 130 مستخدما أغلبهم فتيات في مقتبل العمر يعملون بصيغة التناوب، إلا أن التساقطات المطرية الغزيرة، التي شهدتها عاصمة البوغاز طيلة الأيام الأخيرة واشتدت وتيرتها صباح أول أمس (الاثنين)، عكرت صفو الأجواء المرحة لأزيد من 45 مستخدما، أغلبهم فتيات في مقتبل العمر، كانوا وقتها بداخل المصنع منهمكين في عملية الإنتاج اليومية، سيما بعد أن بدأت السيول تتسرب إلى الداخل من تحت البوابة الرئيسية للمصنع، ما أثار نوعا من القلق والخوف لدى جل العاملات، ودفع بعضهن إلى فتح الباب في محاولة للابتعاد عن الخطر، لتتدفق إثره أطنان من المياه إلى داخل المرأب وتغمر كل مساحته المقدرة بـ 150 مترا مربعا، وحدثت الكارثة... وفور إشعارها بوقوع الحادث، هرعت إلى المكان السلطات المحلية يقودها محمد امهيدية، والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، وكذا عدد من المسؤولين الأمنيين ومصالح الوقاية المدنية، التي عبأت كل إمكانياتها اللوجستية والبشرية، خاصة فرقة «الضفادع البشرية»، التي باشرت للتو عملية الغطس في عمق يصل إلى أزيد من ثلاثة أمتار للبحث عن المفقودين، واستغرقت العملية أزيد من أربع ساعات متتالية تمكنت خلالها فرق الغطس من العثور على 28 جثة، منها 9 رجال، وذلك أمام أعين أسر وأقرباء الضحايا، الذين وقفوا مذهولين لهول الصدمة ينتظرون العثور على ناجين، لكنهم واجهوا الحقيقة المرة بعد بداية انتشال الجثث ونقلها إلى مستودع الأموات في انتظار تعليمات النيابة العامة، إذ تعالت أصوات صراخ وبكاء في مشهد مؤلم خلف حزنا عميقا في نفوس كل الحاضرين. أسباب الفاجعة أجمع كل التقنيين أن الأسباب الرئيسة لهذه الكارثة الإنسانية، تعود لموقع الوحدة الصناعية المنكوبة، التي توجد في منحدر يعرف كل سنة، مع بداية تهاطل الأمطار، فيضانات وسيولا خطيرة تحول المنطقة إلى ما يشبه وديانا كبيرة، نظرا لعدم وجود مجاري وقنوات الصرف الصحي المناسبة لاستيعاب الكميات الهائلة من هذه التساقطات المطرية الغزيرة، بالإضافة إلى انحدار المرأب الذي يصل عمقه إلى حوالي ثلاثة أمتار، ما أدى إلى تدفق كميات كبيرة من المياه في وقت قياسي إلى داخل المرأب، وحاصرت جميع العمال، متسببة في غرق أغلب الموجودين بالطابق السفلي للوحدة المنكوبة. انهيار صاحب المصنع وفقا لمعلومات حصلت عليها «الصباح»، فإن صاحب المصنع، الذي تم إنقاذه هو الآخر، أصيب بانهيار عصبي حاد، نقل إثره لإحدى المصحات الخاصة بالمدينة لتلقي العلاجات الضرورية، حيث أمرت النيابة العامة بوضعه تحت الحراسة الأمنية إلى حين أن تستقر حالته الصحية، والتحقيق معه حول ظروف وحيثيات هذا الحادث المؤلم، ومعرفة إن كان المصنع يتوفر على كل الوثائق القانونية، بما فيها الترخيص لمزاولة هذا النشاط الصناعي، وكذا التأمين على الحوادث. مسؤولون في قفص الاتهام استهجن عدد من الحقوقيين بالمدينة، وصف السلطات المحلية للوحدة الصناعية المنكوبة بأنها «سرية»، واعتبروا بلاغها هروبا إلى الأمام وتنصلا من المسؤولية القانونية لهذا الحادث، الذي أزهق أرواح عدد من العاملات والعمال الأبرياء، خلال سعيهم نحو لقمة العيش في ظروف قاسية. ووجه كل المتتبعين والفرقاء السياسيين بالمدينة وخارجها، أصابع الاتهام للسلطات المحلية والإقليمية ومسؤولي جماعة طنجة، بناء على قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة، مؤكدين أنها تتساهل في منح الرخص لبعض المعامل التي لا تتوفر فيها معايير السلامة، بالإضافة إلى عدم مراقبتها للوحدات الصناعية السرية، التي تتخذ من مرائب بنايات وفيلات تقع وسط أحياء سكنية مقرا لها، وتتمكن من الحصول على التيار الكهربائي المرتفع دون توفرها على ترخيص من السلطات المختصة، التي تبنى تراخيصها على تقرير لجنة تضم مختلف القطاعات، الوقاية المدنية ومكتب حفظ الصحة والسلطات المحلية... كما حملوا المسؤولية للشركة المفوض لها تدبير قطاع الماء والكهرباء والتطهير السائل، التي تفرض على المواطنين والمواطنات إتاوات مالية شهرية عالية، مقابل عدم التزامها بالاستثمارات المنصوص عليها بدفتر التحملات الخاصة بقطاع التطهير، وهو الأمر الذي كشف عنه المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الأخير. لجنة مركزية للتحقيق أفاد مسؤول أمني بالمدينة، أن لجنة مركزية ستحل بالمدينة للتحقيق في فاجعة معمل النسيج، ويتوقع أن تباشر اللجنة تحقيقاتها مع عدد من المسؤولين، خاصة رجال السلطة الذين يزاولون مهامهم داخل النفوذ الترابي الذي يقع ضمنه المصنع، كما يحتمل أن يشمل التحقيق منتخبين على مستوى المجلس الجماعي ومقاطعة السواني، وكذا جميع الجهات المتدخلة في الحادث بما في ذلك، الشركة المفوض لها تدبير قطاع الماء والكهرباء والوقاية المدنية، من أجل تحديد المسؤوليات. مصانع سرية تنتشر بجل أحياء طنجة مئات من المعامل السرية للخياطة، تشغل آلاف العاملات والعمال الوافدين من مدن مجاورة، بينهم القاصرون، خارج الضوابط القانونية التي تنص عليها مدونة الشغل، مستغلة عوز وهشاشة أسرهم لتشغيلهم مقابل أجور هزيلة لساعات من العمل تستمر في فترات من السنة ليلا ونهارا دون رحمة ولا شفقة، وذلك دون أي مراقبة من قبل المسؤولين عن القطاع ، رغم أنها لا تتوفر على أدنى شروط السلامة والنظافة، من تهوية وقنوات صرف مياه الفيضانات ووسائل الحماية من الحرائق وغيرها من المستلزمات الضرورية.