دراسة في القانون: إشكالية العلاقة بين الإعلام والقضاء (2/2)

العلاقة بين الإعلام والقضاء: إشكاليات وبدائل في سياق الحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة وفقا لخارطة الطريق التي وضعها وحددها رئيس السلطة القضائية صاحب الجلالة الملك محمد السادس، والذي تشرف عليه الهيأة العليا للحوار الوطني بمشاركة فاعلة ووازنة لمختلف الهيآت والفعاليات المهتمة بشأن العدالة ببلادنا، وتسهر على إدارته وزارة العدل والحريات. في دراسة حديثة خلال سنة 2010 للخبير الألماني هايتاس كيبلينجر من جامعة ماينس الألمانية في علوم الاتصالات حول تأثير الإعلام على إجراءات المحاكمة في ألمانيا، أكدت أن التقارير الإعلامية التي تنشر حول القضايا التي ينظر فيها القضاء، تؤثر على سير إجراءات المحاكمة.وجاء في هذه الدراسة التي وردت في عدد من المقالات المنشورة عبر شبكة الإنترنيت، أن استطلاعا شمل 447 قاضيا و271 وكيل نيابة و350 محاميا، أن أكثر من 1/3 من المحامين يعطون معلومات لوسائل الإعلام بهدف أن يؤثر الإعلام على قضاياهم، كما اعترف 25 في المائة بأنهم يعملون على تحسين وضعهم في القضية عبر نشر معلومات عنها عن عمد.ورغم أن الدستور الألماني ينص على حياد القضاء، قال هذا الخبير إن الواقع غير ذلك، إذ ذكر أكثر من 50 في المائة من القضاة وممثلي الادعاء، أن التقارير الإعلامية تؤثر على إجراءاتهم، ووفقا للدراسة اعترف 42 في المائة من ممثلي الادعاء بأنهم قد يفكرون في صدى الرأي العام عند المطالبة بحجم عقوبة معينة.كما اعترف 1/3 من القضاة الذين شملهم الاستطلاع بأن التقارير الإعلامية تؤثر على حجم العقوبة، وقال نحو 25 في المائة منهم إن الإعلام يؤثر أيضا على الموافقة أو رفض حبس المتهم مع إيقاف التنفيذ. إذن فهذه الدراسة الألمانية، تلخص مدى تأثير الإعلام على القضاء، وهو التأثير نفسه في العالم بأكمله، ويبدو ذلك من خلال ما يلي: التدخل في حسن سير العدالة أمام المحكمة: فالقضاء يعمل في هدوء من خلال إجراءات قانونية ومسطرية حتى يكفل محاكمة عادلة، بينما يؤدي الإعلام دوره مستخدما المانشيتات الصاخبة، ويلجأ إلى أساليب لا تعرفها المحاكم. مما قد يسيء إلى المجني عليه وأسرته أو التأثير على المحكمة، كما أن المساس بقرينة البراءة: قد يؤدي النشر الإعلامي إلى الانتقاص من قدر المتهم ومكانته وسمعته على نحو يمس بهذه القرينة التي تعد أصلا عاما يتمتع به المتهم، فإذا ما صدر الحكم بخلاف ما روجت له وسائل الإعلام، لم تهتم هذه الوسائل عند الحكم بالبراءة إلا بنشر خبر قصير أو مقتضب لا يثير الانتباه. التأثير في الرأي العام من خلال المحاكمات بواسطة وسائل الإعلام مما يسيء للعدالة: ونقصد بذلك ما يسمى بمحكمة الصحافة والإعلام حين تنصب أجهزة الإعلام نفسها محكمة تستمع فيها إلى الخصوم والشهود، وتجمع الأدلة وتقيمها وتنشرها على نحو يحمل على الاعتقاد بإدانة المتهم أو براءته وتصدر الأحكام.إن هذا المسلك من شأنه التأثير في الرأي العام الذي يقع في حيرة من أمره إذا ما أصدرت المحكمة حكما لا يتفق مع ما انتهت إليه المحاكمة الإعلامية، وهي نتيجة تسيء إلى العدالة لأنها تزعزع ثقة الرأي العام فيها. والتأثير في مكافحة الجريمة وضبط الجناة وتعطيل العدالة: قد تعمد وسائل الإعلام عند نشر أخبار تحقيق الجريمة إلى تمكين بقية الجناة الذين لم يقعوا بعد في قبضة العدالة من الفرار، كما قد يؤدي إلى تعريض الشهود للخطر بسبب معرفتهم ومعرفة أقوالهم. وفي بعض الجرائم قد يؤدي النشر إلى إحداث الترويع الذي يهدف إليه الجناة، كما الحال في جرائم الإرهاب، فضلا عن أنه قد يؤدي إلى تعريض الأدلة التي تسعى جهات التحقيق إلى جمعها إلى خطر المساس بها أو ضياعها.فما هي البدائل الممكنة لهذه الإشكالية المعقدة؟إن البحث عن البدائل بالشكل الذي يحقق مبدأ التكامل الذي نتوخاه بين الإعلام والقضاء، يستوجب توفر رؤية واضحة المعالم لمجال اشتغال كل من سلطة الإعلام وسلطة القضاء، وهذه الرؤية لن تتأتى إلا بالإجابة الدقيقة والواضحة عن عمق الأسئلة التي تطرحها إشكالية العلاقة بين الإعلام والقضاء، ومن أهم هذه الأسئلة: كيف يمكن التوفيق بين المساطر القضائية وما تتطلبه من السرية، وبين حق المواطن في المعرفة؟ وما السبيل لتحقيق التوازن بين حق المواطن في الإعلام والمعرفة، وبين قرينة البراءة؟ وما هي حدود مساحة النقد المتاحة للصحافة بمعنى كيف يمكن للصحافة أن تتحرك في إطار بحثها عن الحقيقة والوصول إلى المعلومة دون أن يعرضها ذلك للمتابعة؟ وكيف يمكن التوفيق بين مبدأ العمل الإعلامي القاضي بأن «الخبر مقدس والتعليق حر»، وبين المبدأ القضائي القاضي بحيازة القرارات القضائية لقوة الشيء المقضي به؟ ثم ما هي الشروط التي توفرها المحاكم للصحفيين لكي يقوموا بمهامهم على الوجه المطلوب والوصول إلى المعلومة؟إن الإجابة الرصينة على هذه الأسئلة وغيرها، قد تفسح المجال بدون شك للعلاقة التكاملية بين الإعلام والقضاء على النحو الذي أتينا على ذكره فيما سبق، وذلك من خلال البحث عن آليات للتواصل والتعاون والانفتاح لتبادل وجهات النظر، والاتفاق على أرضية مشتركة للعمل المشترك بالشكل الذي يؤدي إلى تعزيز قيم المسؤولية وتكريس بناء مجتمع المعرفة بالموازاة مع بناء دولة الحق والقانون.وكمساهمة أولية في إرساء هذه الأرضية المشتركة للعلاقة التكاملية أو التفاعلية بين القضاء والإعلام، نرى أن المدخل الصحيح والسليم لذلك هو التزام كل طرف بضوابط ومبادئ هي من صميم الحياة الديموقراطية التشاركية المؤسسة على ثنائية الحق والقانون.وهكذا فعلى الإعلام الالتزام بمبادئ جوهرية لها صلة وثيقة بالمحاكمة العادلة وبسمو القضاء وقدسية أحكامه وهي: مبدأ الالتزام بقرينة أن الأصل هو البراءة، ومبدأ احترام سرية التحقيق. ومبدأ احترام الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به.وهي مبادئ منصوص على مقتضياتها في قانون الصحافة وخاصة الفصل 54 كما في قانون المسطرة الجنائية من خلال المواد 1 و15 و303، ومن جهة أخرى على القضاء ومؤسساته أن يتحلى بجرأة أكبر في موضوع الانفتاح على الصحافة ووسائل الإعلام، والالتزام بدوره ببعض التوجهات والضوابط ومنها أساسا: توفير كل الظروف والبنيات الضرورية التي تسمح بالوصول إلى المعلومة. وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال، إلا بتنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بهذا الحق وتنظيمه، وكذا تأهيل المحاكم على المستوى المعلوماتي واستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة في تدبير القضايا. وإحداث مؤسسة على صعيد المحاكم تتكلف بالتواصل مع رجال الصحافة. والتفكير في إحداث نشرات تواصلية على صعيد الدوائر القضائية. وإسراع النيابات العامة في إصدار بلاغات صحفية توجه إلى وسائل الإعلام المختلفة المكتوبة والمسموعة والمرئية الإلكترونية بشتى توجهاتها ومشاربها، وذلك على قدم المساواة بشأن أهم وأبرز القضايا التي تشغل الرأي العام. وتنظيم أيام دراسية وتكوينية لفائدة رجال الإعلام للتعريف بمبادئ وخصوصية الثقافة القضائية وآليات اشتغال مؤسسات القضاء.وعلى سبيل الختم: لا شك أن القاسم المشترك بين الإعلام والقضاء، هو العمل الحثيث من أجل محاربة الفساد، وكشف الاختلالات بكافة أشكالها، وهو هدف أسمى يتجاوز الحدود الضيقة التي قد تفصل بين مكونات المجتمع السياسي والمجتمع المدني، ويتطلب تظافر جهود الجميع مهما اختلفت المواقع، وتباينت الأدوار داخل مجال سياسي مفتوح قائم على مبادئ الانفتاح والشفافية ووضوح قواعد اللعبة الديموقراطية، ما يتطلب البحث عن صيغة أو أرضية لتصور العلاقة بين القضاء والإعلام بما يحقق التوازن المنشود بين أطراف المعادلة الشائكة في هذه العلاقة، والمتمثلة في رهان ضمان الحق في الوصول إلى المعلومة المنصوص عليه دستوريا، من جهة، ومن جهة أخرى ضمان مبدأ سرية البحث واحترام قرينة البراءة المنصوص عليها دستوريا أيضا. فحل هذه المعادلة هو بالتأكيد مساهمة في ضمان حصانة كل من القضاء والإعلام، وتقوية جبهتهما في أداء الأدوار المنوطة بهما من عوائق التطور أو الوقوع في براثين الفساد، بدلا من الوقوف سدا منيعا في مواجهته، فالقضاء والإعلام هما صمام أمان سيادة القانون في الدولة والمجتمع معا. بقلم: عبد العزيز بوزيان, الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس ورئيس المكتب الجهوي للودادية الحسنية لقضاة جهة فاس- تازة

دراسة في القانون: إشكالية العلاقة بين الإعلام والقضاء (2/2)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"الكوديم" يدخل مرحلة الخطر

التحقيق في اتهام قائد بالضغط على شهود بإفران

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات