إصلاح التقاعد … الدرس الفرنسي البليغ

متى ينقذ حكماؤنا السياسة من الإفلاس؟ الفرنسيون منشغلون هذه الأيام بلعبة شدّ الحبل بين حكومتهم، ذات التوجه اليميني، وبين النقابات، بتوجهاتها المتباينة، حول موضوع إصلاح التقاعد. إصلاح ساخن ومثير للجدل، يبعث بعض الدفء في أوصال احتفالات رأس السنة الميلادية الباردة. سخونة تقدم لنا، نحن المهووسون بكل ما هو فرنسي، دروسا وعبرا في تعامل الحكومة، صاحبة المشروع، مع الاحتجاجات النقابية، الرافضة له. فما من شيء يمكن فرضه على الشعب من دون نقاش؛ علما أن هذا المشروع كان من ضمن مشاريع الإصلاح التي صادق عليها معظم الفرنسيين عند انتخابهم للرئيس ماكرون. لكن لا شيء ثابت في عالم السياسة. ضمن هذا العالم الذي تسعى النخبة الفرنسية جاهدة لإنقاذه من الإفلاس، سيّما في ظل تراجع نسب الاهتمام لدى الفرنسيين بالسياسة، بعد مسلسلات الفضائح التي اجتاحت المجتمع السياسي، والهجمة "الماكرونية" على المكتسبات الاجتماعية للفرنسيين في تأثر واضح بالليبرالية الجديدة الأمريكية، تبرز أصوات حكيمة تلطّف من قساوة المواقف الرسمية، فجون لوك ميلنشان القائد اليساري والمرشح السابق للرئاسيات الفرنسية، يرى أن هذه الاحتجاجات ستمنح الفرنسيين ثقة إضافية في أنفسهم، وأن على الحكومة أن تقبل بسحب المشروع، لأن من شأن ذلك، أن يعيد العلاقة بين الشعب الفرنسي وحكومته إلى وضعها الطبيعي، فالدكتاتوريون وحدهم من يرفضون التنازل. وأمام إصرار إدوارد فيليب رئيس الحكومة الفرنسية، الذي أتحفنا، أخيرا، بابتسامته البروتوكولية، خلال اجتماعه مع رئيس حكومتنا سعد الدين العثماني الذي أتحفنا بدوره بقهقهته المبالغ فيها، على عدم التنازل عن مشروع الإصلاح، نرى فابيان روسيل الكاتب الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي يذكّر اليسار بدوره بالاصطفاف خلف المطالب النقابية للعمال. درس كبير في فرز المواقف، وإنقاذ السياسة من العبث، الشيء الذي نفتقده بشدّة في مغربنا اليوم، حيث اختلط الحابل بالنابل، وأصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الاطلاع على موقف حكيم من قائد سياسي، إن وُجدْ، في قضية تهم المجتمع برمته. منذ سنتين مرّرت حكومة عبد الإله بنكيران مشروعها "الإصلاحي" للتقاعد، وقبل، وأثناء، وبعدما دخل هذا الإصلاح حيز التنفيذ، لم يتحرك المجتمع السياسي، ولم يُقَاوم المشروع، ولم يُسْحب، ولم تتنازل الحكومة عن أي شيء، ولم تربح النقابات أي شيء، ومرّ الأمر وكأن شيئا لم يكن، علما أن تأثيره دخل كل بيت. فكيف نتكلم بعد ذلك عن الثقة في السياسيين والنقابيين، وعن المشاركة السياسية، وحثّ الشباب على الانخراط في الأحزاب؟ هل يمكن للبرلماني اليوم أن ينظر في وجه ناخبيه ويقول لهم إن تقاعدي معفى من الضريبة على الدخل بينما صوّتُ على الاقتطاع الضريبي من تقاعدكم؟ وهل يمكن لرئيس الحكومة الفرنسية أن يسمح، في مشروعه، أن يستثني نفسه والنواب الفرنسيين من الاقتطاعات الضريبية التي يفرضها على المواطن الفرنسي؟ ومنذ أيام صادق البرلمان على مشروع قانون المالية، ومواده المثيرة للجدل، وبشكل خاص المادة التاسعة الشهيرة، ولم نلحظ أي تحرك من أية جهة لإيقاف ذلك، مع ما لهذه المادة وغيرها بإضرار بمصالح المقاولات والنسيج الاقتصادي، وأصرت الحكومة على اقتطاع الزيادة التي قدمتها منذ أشهر للأجراء بعدما أضافت زيادة موازية لا مبرّر لها في التأمين على العربات، واللائحة طويلة وتكاد لا تنتهي. إن ما يحدث في بلادنا من تخاذل للنخبة السياسية، وتقاعسها عن أداء مهامها، والتفكير في مصالحها الضيقة، من تنافس على المواقع والكراسي، لا يخدم أي جهة، إذ يكفي أن المغاربة لم يعد يهمهم اليوم الاهتمام بالشأن السياسي ولا بما يجري في الصالونات، فهمهم الوحيد هو لقمة العيش بعد توالي اتساع الشرخ الاجتماعي، وغياب النماذج داخل مجتمعهم. واليوم، إذا كان الفرنسيون قد خرجوا للاحتجاج بمئات الآلاف رافضين مشروع إصلاح نظام التقاعد الذي تقدمت به حكومتهم، فقد وجدوا في قوى المجتمع الحية من كتاب وجامعيين ومفكرين وسياسيين وطلبة سندهم لإثبات صوتهم والتعبير عن رأيهم بكل حرية، فأعادوا لفرنسا دورها التنويري، وتصالح المجتمع مع قواه السياسية، بينما في بلادنا اختفت هذه القوى وتُرك الشعب لحال سبيله، وتراجعت أدوارها، إذ لم يعد يربطه بها سوى مقتطفات مصورة في مواقع التواصل الاجتماعي، تبرزو فيها للمجتمع أدوارها في لحظات صادقة من التراشق بالكلمات واللكمات في آن واحد. خالد المختاري

إصلاح التقاعد … الدرس الفرنسي البليغ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أخبار الصباح

التوفيق: وزارة الأوقاف فقيرة

مقالات ذات صلة