“سبيطار” برشيد… أقبية للعزل حتى إشعار آخر

أعرق مستشفيات الأمراض العقلية بالمغرب يتعرض للتدمير الممنهج ومشروع للإنقاذ قيد الدراسة سنتان فقط، على أبعد تقدير، ويتحول مستشفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية ببرشيد، بشكله وهندسته ومرافقه الحالية إلى ذكرى للتاريخ، بعد المصادقة، رسميا، على اتفاقية شراكة بين اللجنة الإقليمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية لإقليم برشيد ومندوبية وزارة الصحة والجماعة الحضرية ومؤسسة الحاج الطيبي الناصري للأعمال الاجتماعية والثقافية والرياضية على إعادة تجهيز وبناء مستشفى بهيكلة ومواصفات حديثة وباسم جديد "مستشفى الأمراض العقلية متعدد الاختصاصات بمدينة برشيد"، بقيمة استثمار إجمالية تصل إلى أربعة ملايير سنتيم. "الصباح" تدخل أقدم مستشفى للأمراض العقلية تتآكل عقاراته وأجنحته ومرافقه، بسبب عوامل الجشع المحلي، ويتقلص عدد نزلائه باستمرار حتى وصل 240 مريضا فقط، من أصل ألفي نزيل قبل 25 سنة. تمرر المرأة ذات النقاب الأسود وصفة دواء من بين قضبان الباب الحديدي، يتفحصها الحارس، ثم يمد يده إلى المزلاج ويفتح بابا جانبيا صغيرا يؤدي إلى باحة أوسع ويسمح لها بالدخول. يحكم إغلاق الباب من جديد، ثم يعتقد كرسيه الخشبي مثل إنسان آلي.يقول الحارس إن السيدة تتردد باستمرار على مصلحة الأدوية بالمستشفى لأخذ حصة ابنتها المريضة من الدواء، بعد أن استفادت، قبل أشهر، من رخصة خروج ومتابعة العلاج في المنزل تحت إشراف طبي.يستفيض الحارس في الشرح، ويقدم نماذج أخرى لآباء وأمهات، يحفظ أسماءهم ووجوههم عن ظهر قلب، يأتون مرة كل أسبوعين إلى المستشفى لمتابعة حالات أبنائهم وأقاربهم، دون أن يظهر عليه، في أي لحظة، كما قيل لنا، أنه ينتمي إلى فصيلة النزلاء السابقين بالمستشفى نفسه، الذين كلفتهم الإدارة بحراسة الباب الرئيسي واستقبال المرضى وعائلاتهم بمقابل شهري لا يتعدى ألف درهم، إضافة إلى استفادتهم من وجبات غذائية وإيواء بالمجان. تشذيب وأعمال صيانةيفتح الباب الرئيسي (لاحظوا أن لسبيطار برشيد أبوابا أخرى غير رسمية) على ساحة كبيرة تتوسطها حديقة شبه قاحلة وشجيرات فقدت الكثير من خضرتها. على اليمين، تستمر الأشغال لتوسيع مستودع الأموات الذي بدأ يضيق بـ»زواره» من نزلاء المستشفى الذين يقضون بسبب تقدم السن وتكالب الأمراض المزمنة. في الجهة اليسرى تصطف سيارات إسعاف وخدمة متلاشية تلامس عجلاتها الأرض، ويظهر أنها لم تتحرك منذ سنوات وظلت معتقلة بهذا المكان، لكن وجودها ضروري هنا لتبرير استغلال هذا الفضاء المظلل لركن سيارات الموظفين والأطر الطبية.المكان قفر في هذه الساعة الملتهبة من «الصباح»، إذ بدأت شمس برشيد الحارقة تقترب من كبد السماء. وحدهم البستانيون الثلاثة يواصلون عملهم، بكسل، في تشذيب الشجيرات الصغيرة وجمع مخلفات البستنة والأزبال ووضعها في حاويات «جديدة» لم تكن موجودة أثناء زيارة الصباح للمستشفى الأسبوع الماضي.«من حقكم أن تربطوا بين هذه الأشغال والزيارة المرتقبة لوفد أممي للمؤسسة بعد أيام»، يقول يوسف موحي، الطبيب المختص ومدير المستشفى بالنيابة، قبل أن يستطرد «لكن الأمر غير صحيح بالمطلق، فقد اعتدنا القيام بأعمال الصيانة والترميم والبستنة والصباغة في أوقات متفرقة دون مناسبات»، وقبل أن يكمل يمد يده إلى ورقة دواء تمدها إليه أم في عقدها السادس في صمت، يتفحصها، ويبتسم في وجهها «هاد الدوا ماكاينش عندنا هاد الساعة، حتى من بعد وغادي يــــــــكون».قرب شباك الصيدلية، تحرص الممرضة على إظهار لائحة الأدوية المتوفرة في مخازن المستشفى وعرضها أمام ذوي المرضى الذين يترددون باستمرار على المصلحة لأخذ حصتهم من الدواء. «الأمر أساسي بالنسبة إلينا، يقول موحي، ونحرص ما أمكن على تلبية طلبيات الأسر ومدهم بالأدوية الخاصة بالأمراض العقلية والنفسية بشكل مجاني، لمساعدتنا على الاهتمام بفئات من المرضى خارج المستشفى»، مؤكدا أن ميزانية الأدوية ارتفعت من حوالي 1.5 مليون درهم، في السنوات الماضية، إلى 7 ملايين درهم هذه السنة، كما أن جودة الأدوية وأنواعها تطورت خلال السنوات الأخيرة، «ما مكننا من تفادي عدد كبير من المشاكل مع المرضى وعائلاتهم، ودفعنا إلى التفكير في بناء مشروع صيدلية أكبر حجما ومجهزة بأحدث تقنيات التخزين». مستشفى مشرع على الخرابلسبب ما، يتوفر مستشفى الرازي للأمراض النفسية ببرشيد على مدخلين اثنين مفتوحين على كل الاحتمالات: واحد «رسمي»، بيافطة كبيرة وبوابة حراسة، وآخر من الجهات الثلاث، يضعك وجها لوجه أمام مدينة أشباح تتغذى من الدمار والخراب والردم، تحرسها قوافل الكلاب الضالة، وجيوش المتسكعين و«الشماكرية» الذين وجدوا في مرافق وبنايات مدمرة بفعل فاعل مآوي جديدة تقيهم عيون العسس ورجال الأمن إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.المدخل الأول، يمثل واجهة ما ينبغي أن يكون، بأضعف ما يمكن من إيمان، لحفظ ما تبقى من وجه مؤسسة للصحة العقلية، هي الأعرق في تاريخ الطب النفسي والعقلي بالمغرب تخضع إلى عملية «تآكل» ممنهجة منذ سنوات، بينما تقلص المداخل الأخرى المسافة بين التدبير العشوائي لعقارات الدولة والرغبة في فرض واقع جغرافي جديد على الجميع، إذ تقلص العقار الذي كان مخصصا لهذا المستشفى من 43 هكتارا إلى بضعة أمتار فقط، كما تقلصت أجنحته من 25 جناحا، كانت تضم ألفي مريض في الثمانينات، إلى 5 أجنحة فقط. وسط هذا الخراب والبنايات العشوائية المدمرة، يعيش حوالي 240 نزيلا ونزيلة في أجنحة مختلفة، يؤمن وجودهم في هــــــــذا المكان القفر أقل من 85 موظفا (ضمنهم أربعة أطباء متخصصين، وممرضون وأعوان وحراس عامون، ومستخدمو مطبخ، وأعوان حراسة).وهكذا، يتوزع النزلاء إلى أربع فئات، حسب الجنس والعمر ونوع المرض، أو السجل الجنائي، إذ يضم جناح «أبو سماح» عنبرين، واحد خاص بالمرضى الذكور الذين يقضون مددا قصيرة، وأغلبهم ممن يصابون بحالة هيجان عصبي غير عاد، فتضطر أسرهم، مرغمة، إلى حملهم إلى المستشفى لتلقي العلاجات الضرورية، وهؤلاء يصنفون ضمن الحالات العادية التي تتطلب إشرافا طبيا.يضم الجناح نفسه، في مكان مجاور معزول، غرفا خاصة بالنساء، بعضهن حالاتهم صعبة، بينما تعيش 22 منهن وضعية إقامة مؤقتة، لغياب عائلات وأسر تتسلمهن، وحرص إدارة المستشفى على عدم الزج بهم في الشارع، بسبب المخاطر الكثيرة التي يمكن أن تعترضهن. غير بعيد عن جناح «أبو سماح1 و2»، وفي الجهة الخلفية من المستشفى، يقيم أكثر من 70 نزيلا من نوع خاص، في جناح «أبو جعفر»، ممن يخضعون إلى مسطرة قانونية معقدة يكون الفيصل فيها وزارة العدل وليس وزارة الصحة، ويتعلق الأمر بعدد من السجناء والمتهمين في قضايا جنائية أو جنجية الذين بدأت تظهر عليهم أعراض مرض نفسي وأحيلوا على هذا المكان للعلاج والخبرة، لذلك يعتنق أغلبهم المقولة الشعبية الشعبية الشهرية «لي لقا راحتو في لهبال آش بغا يدير بلعقل».في المكتب الإداري الصغير بالجناح نفسه، يشرح الدكتور يوسف موحي الوضع الخاص لهؤلاء النزلاء، ويستعين بسبورة خشبية علقت عليها بعض الوريقات الصغيرة تحمل أسماء هؤلاء النزلاء، وحالاتهم القانونية، مثل الإعفاء من العقوبة والعرض على مستشفى الأمراض العقلية، والنزلاء الذين يخضعون إلى الخبرة الطبية، أو الذين يوجدون في حالة انتظار، وآخر في وضعيات استثنائية وجدوا، صدفة، في المكان، مثل المريض الوجدي الأخرس، الذي يزجي وقته، يوميا، في صناعة طائرات من ورق من مواد أولية عادية. غرف للعزللأسباب تتعلق بالإهمال وتردي البنية التحتية، يوضع مرضى ونزلاء جناحي «أبو جعفر» و«أبو سماح 1/2»، في غرف شبه معزولة تعود إلى الفترة الاستعمارية بأسقف ونوافذ عالية جدا لا يطولها المرضى خوفا من إيذاء أنفسهم..هذه الغرف كانت تؤدي، وقتذاك، دورا استشفائيا معينا، في إطار آخر ما وصل إليه الطب النفسي والعلاجات السريرية المرتطبة به، إذ كان الأمر يقتضي أن يوضع المريض في غرفة واحدة بباب خشبي شديد ونافذة قريبة من السقف العالي مفتوحة في كل الأوقات للتهوية، وينام فوق سرير مثبت على في الأرض وقربه مرحاض صغير بمواصفات خاصة.لاحقا، تم التخلي عن هذه الغرف، وضمها إلى بعض وتغيير ألوانها من الغامق إلى ألوان مفتوحة، لكن ذلك لم يخف أنواع التدهور والإهمال الذي يعيشه المرضى، خاصة الذكور، إذ يظهر ذلك على ملابسهم المتسخة والهزال الذي يظهر على وجوههم، ونوعية الأفرشة والملاءات التي ينامون فوقها، اللهم إلا بعض الأسرة المستعملة التي وصلت إلى المستشفى على شكل هبة من طرف جمعية للخير والإحسان. في الجهة الأخرى من المستشفى، قرب المطعم والمطبخ والفرن القديم، يوجد مستودع كبير كتب فوقه مصلحة أبو الحكم ووضع فيه «شيوخ» المستشفى ونزلاؤه القدامى الذين نُسيوا في هذا المكان، إلى أن بلغوا من العمر عتيا، وبعضهم وصل إلى المستشفى سنة 1953 ومازال يرقد به إلى اليوم رفقة 70 شيخا آخر مغلق عليهم في هذا الجناح. يوسف الساكت

“سبيطار” برشيد… أقبية للعزل حتى إشعار آخر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

3 أسئلة: الغازي: زيارة الأضرحة تكون بعد استشارة الأخصائيين

"بويا عمر" يعوض المرضى عقليا بمدمني المخدرات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات