سيدتي تعثرت أصابعي فجأة بالقلم ووجدت نفسي أكتب إليك لأخبرك أن الدمع جف من مآقيَ وأن عيناي غارتا في محجريها ، وأن ابتسامتي ما عادت جميلة كما كانت حين كنت تحضرين في حضني . سيدتي ما عادت الأزهار تتفتح ، وما عادت الفراشات تزور حدائقي ، وما عادت ورود الياسمين تغريني . سيدتي شط الهوى في غيابك مقفر ، أنا فيه وبضعة نوارس تأخذ مني فتات رغيف أحضرته معي يوما كزاد من ذاك الزمن البعيد . سيدتي تلاطمني الموج لعقود وأخذني لزمن طويل بين جزر التيه ، و أخيرا حط بي هناك في الاقاصي ، حيث الوحدة قاتلة ، وصقيع الضياع يمزق دواخلي . سيدتي أكتب لك الآن من بقايا دمي وأرسم لك معالم الغرز التي رتقت بها شرخا حدث في الروح مذ حزمت حقائبك ورحلت . سيدتي غطائي هنا حلم وفراشي أماني ، أرقب القمر كلما بدأت أشعة الشمس بالاحتضار عند الغسق ، ففي القمر اعتدت رؤية وجهك ، وفي النجوم أبعاد روحك . سيدتي هذا الامتداد المطلق للسماء يغرق فرديتي فيك ويحملني إليك كما يحملك إلي هنا في خلوتي . سيدتي امتداد الزمن أكثر مضاضة مما يفصل بيني وبينك من مسافات . فبيني وبنيك مليار وألف وأربعمائة سنة من الشوق وشعاع الكرة الارضية . سيدتي كلماتي فقط تختصر البعد كما تختصر عمري و تجعلني أبلها يعيش الاماني عند عتبة محراب الهوى . سيدتي أخبرك أنني بخير رغم كل هذا وذاك ............ سيدتي عند آخر النفق ليس الضوء وحده ما ينتظرك هناك ، فقد تنتظرك حافة تأخذك إلى هوة عميقة يستحيل أن تخرج منها . وقد تنتظرك ضفدعة مستلقية هناك تأخذ حمام شمس صباحي لتجعل زغيبات شعرك تقف خوفا حينما ستقفز أمامك فجأة . وقد ينتظرك كلب يشد بنواجده على رطوبة لحم فخذك ليلهو بك كعجينة كعكة . وقد تنتظرك يد تمسك بك وتقودك لبر الأمان مطبطبة على كتفك ، وبهمسة تقول لك ( لا تخافي فالأسوأ قد مر ) . وقد تجدين فما نثنا يقابلك بكلمة ( لو قبعت في النفق كان أحسن لك ) . المهم عند نهاية النفق ستجد شيئا مما ذكرنا ، وقد تجد الفراغ وبالمناسابة نقول : أيها القاطنون زوايا الألم . الساكنون هدوء القبور . الحالمون في صمت . الهائمون في كهوف الخلوة . المعتكفون على قلوبهم . المرتحلون مع حقائب الأماني . الراكعون على ضوء القمر . الكاتبون لأنفسهم في ثنايا الحرف . الكاتمون للألم والغصة في أكبادهم . المودعون لأنفسهم في حروف تسيح على القرطاس دما يخط أرواحهم . الراحلون كل صباح مع أول سطوع للشمس ، بحثا عن أنفسهم . لكل هؤلاء نقول ، ليس للحياة معنى خارج التيه ، ليس للإنية الفردية وجود خارج هذا الهوس الذي يسكن الوجود ، كسعي للكمال والامتلاء . نحن معشر المجانين نسكن كل بقاع التيه ولا نوجد في أي مكان ، تحتضننا بؤر المآسي وتُقبلنا الآهات . أنا منكم وعن نفسي أتحدث ، فهوس الماضي يسكنني ، ومخاوف المستقبل تظنيني . عالق أنا في هذا الحاضر تأويني ذكرى ما كنت عليه يوما ، وما سيأتي بعد هذه الذكرى التي تجثم على قلبي وتجعل الحاضر جحيما لا يطاق ، فكل ما يعذبني صورة علقت على مشجب الأماني كانت تنتظر أن تصير واقعا ، ومُت قبل تحقق آمالي . هنا في قبر العزلة ، في بيد الخلوة ، في زوايا العدم تجدني قابعا أناجي نفسي . أرسم الأحلام في حروفي ، وأخيط الألم في كلمات ، وأنسج الكمال في سطوري لعلني أعود يوما لأكون بينكم . لأعيش الفظاعة التي تعيشونها يوميا وتسمونها عبثا حياة . بل ومنحتم شرف الاسم للأنثى فغدت الحياة لعبة بئيسة تقدمون لها الورد في يوم وتحتقرونها بقية الأيام . تراني أعود لكم ، أم أظل عند عتبة هذا المحراب الذي يأويني ؟ لا طبعا لن أعود سيدتي ، ففي عالمك الذي هو عالمهم لا شيء يستحق أن أذرف من أجله دمعة ، ولاشيء يستحق أن أرسمه على مآقي بملوحته . عالمك سيدتي عالم فيه الخرفان بالجملة تباع ، فيه المشاعر وصلت في الحقارة حد القاع ، فيه من كل الألوان ، ولكن ليس فيه من عالمي أنا ولو مقدار ذرة . عالمي كله تزاحم للأماني ، أحلام كلها بلون وردي ، وعندكم تتشح باللون الرمادي . عالمي ليس فيه أفق يحد النظر ، وليس فيه غياب أو حضور ، عالمي خال من التناقضات ، وخال من كل ما يعكر صفو الهدوء . عالمي يا سيدتي عالم صمت مليء بضجيج الحروف في تساقطها على بساط قرطاس ، من خلال خطيئة لليراع الذي حين ينحني على أوراقي ولا يشبع من تقبيلها . بكل بساطة عالمي عالم الكتابة .