الداخلـة … جنة الباحثين عن الهدوء

مبانيها الكئيبة ومتاجرها المقفرة لا تعكس مكانتها السياحية العالمية يعرف السياح الأجانب الداخلة أكثر مما يعرفها المغاربة الذين ارتبطت لديهم بالصراعات والنزاعات حول الصحراء، قضيتهم الوطنية الأولى. العديدون يجهلون أن هذه المدينة، شبه الجزيرة، التي تجمع طبيعتها بين البحر والصحراء، تتوفر على سمعة سياحية دولية ولديها من المؤهلات ما يصنع منها جنة حقيقية فوق الأرض. الداخلة مدينة ميتة وحية في الوقت نفسه. تقليدية وحداثية. أوضاعها متوترة، لكنها، في الوقت نفسه، فضاء نموذجي للباحثين عن السكينة والهدوء. إنها تجمع بين شخصيتين متناقضتين ولها وجهان مختلفان تماما. الساعة تشير إلى التاسعة صباحا. الشوارع خالية والأحياء مقفرة والمتاجر مقفلة في الداخلة، وكأنها مدينة تسكنها الأشباح، اللهم بعض المقاهي المنتشرة هنا وهناك، في انتظار زبون راغب في تناول فطوره، أو ارتشاف قهوته الصباحية، قتلا للوقت، الذي يمر بطيئا مملا في هذه المدينة ذات الوضعية الحساسة والاستثنائية، البعيدة عن العاصمة بأكثر من ألف كيلومتر. لا حياة وسط المدينة في مثل هذه الساعة من اليوم. ولا تدب الحركة في أوصالها إلا بعد أن تقترب شمس الصحراء الحارقة من المغيب، حين تبدأ المحلات والأسواق في فتح أبوابها والترويج لبضائعها، "على أقل من مهلها"، حاملة، كلها، بدون استثناء، شعار الكسل المقدس لدى فئة غير قليلة من المغاربة، "اللي بغا يربح العام طويل". تجارة كاسدة الزائر لأسواق الداخلة وفضاءاتها التجارية، يخيل إليه، أنها تفتح على سبيل الاستئناس، و"قلة ما يدار"، وفيما عدا بعض البضائع القادمة من المستعمرة القديمة إسبانيا، وبعض أنواع التمور والفضة والشاي ومستحضرات التجميل المحلية، لا شيء يغري بالشراء. لذلك يقضي التجار وأصحاب المحلات جل أوقاتهم في الحديث وتناول أكواب "أتاي" الصحراوي اللذيذة، والتدخين. وحتى لو دخل محلهم زبون، لا يعيرونه أدنى اهتمام، وكأنهم يعرفون في قرارة أنفسهم، أنه دخل بدافع الفضول فقط، وأنه بمجرد ما سيلقي نظرة على المعروضات، سيغادر متحسرا من تلقاء نفسه، ولسان حاله يقول "ما هذا البؤس الذي يعم المكان؟". ولا تصبح المدينة مأهولة بالسكان، إلا بعد التاسعة مساء، حيث "ينشر" الرجال أرجلهم في "تيراسات" المقاهي البسيطة، يراقبون "الغادي والجاي"، في حين تقصد النساء "كورنيش" وسط المدينة، مرتديات "ملاحفهن"، حيث يطلقون العنان لأطفالهن يلعبون ويمرحون، ويستمتعون بشراء مختلف أنواع الحلويات والسكاكر من الباعة المتجولين في هذا الفضاء الذي يعتبر تقريبا المتنفس الوحيد داخل المدينة. المطاعم أيضا تفتح أبوابها في مثل تلك الساعة، قبل أن تبدأ في منع الزبائن من الدخول ابتداء من العاشرة والنصف ليلا، حتى تتمكن من الإغلاق في الوقت القانوني، مع منتصف الليل. تقدم هذه المطاعم، إلى جانب بعض الفنادق القليلة في الداخلة، مشروبات روحية، لكن أغلب زبائنها من الأجانب الذين قادتهم مهمة عمل أو قدر غريب إلى هذه المدينة الساحرة بموقعها وطبيعتها، التي جنت عليها السياسة وأوقفت حالها، إلى أجل غير مسمى. نادرون هم الصحراويون من السكان الأصليين، من يرتاد هذه النوعية من الأماكن، فهم مجتمع "محافظ" وحريص كل الحرص على التقيد بالعادات والتقاليد الصحراوية التي تلتزم كثيرا ب"الحشمة" ولا تستسيغ "قلة الحيا". شبه الجزيرة الميتة البنايات في الداخلة كئيبة ولا جمالية فيها. والمنازل مشيدة كيفما اتفق، في غياب أي تنسيق في هندستها. إنها مدينة بلا روح. لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، وكأن عجلة التاريخ وقفت عندها في فترة قديمة من الزمان، ونسيتها. إنها ميتة. ولولا بعض التظاهرات والأحداث التي تحتضنها بين الفينة والأخرى، والتي تروجها وتحيي فيها بصيصا من الحركة، لما تذكر أحد وجودها، رغم أنها تلقب ب"باب الصحراء"، وتعتبر بوابة المغرب نحو قارته الإفريقية. وإذا كانت الاستثمارات المغربية في بعض البلدان الإفريقية مكنت من تحريك عجلة اقتصادها وتوفير فرص شغل لسكانها، فهي في الداخلة نادرة وشبه منعدمة، فباستثناء بعض البنوك التي لها فروع، مثل التجاري والشعبي، وبعض علامات السيارات التي فتحت لها "شو روم" هناك، وبعض الفنادق الموجودة وسط المدينة، ولا ترقى إلى مصاف المؤسسات الفندقية المصنفة، وبعض المقاهي والمطاعم المحسوبة على رؤوس الأصابع، لا وجود لاستثمارات هناك، اللهم بعض محلات بيع "البيتزا" و"كفتة الجمل" الشهيرة في المنطقة، وبعض صالونات الحلاقة، وبعض محلات "تاكوس" التي تستعد لفتح أبوابها. فتيحة، حلاقة تجاوزت الثلاثين من عمرها، جاءت إلى الداخلة قبل ست سنوات قادمة من بني ملال بحثا عن عمل، قبل أن تفتح "صالون" تجميل لا يحمل من الصفة إلا الاسم، قالت في حديث إلى "الصباح"، إن محلها لا يعرف رواجا كبيرا رغم أسعاره المنخفضة وخدماته الرخيصة. ولولا بعض الموظفات من "الداخل"، اللواتي قادتهن ظروف عملهن للاشتغال في هذه المدينة، لظلت "تنش الذبان" طيلة اليوم. وحدهن من يقبلن على نتف الحواجب وتسريح الشعر واستعمال "لاسير"، فالصحراويات لا يسدلن شعورهن إلا لأزواجهن وأغلبهن ربات بيوت أو لا وظيفة لديهن، ولا يسهرن ولا يحتفلن إلا في مناسبات خاصة، كما أنهن لا يثقن في الخدمات التجميلية ل"الصالونات"، ويحرصن على استعمال خلطاتهن التقليدية الخاصة، مثل "الحلاوة" للتخلص من الشعر في الجسم كله، تقول فتيحة. الداخلة أتيتود... "الثلث الخالي" "الداخلة أتيتود" ضائعة بين رمال الصحراء. لا تدخلها إلا السيارات رباعية الدفع، لأنها الوحيدة القادرة على شق طريقها وسطها. هناك، يمكن لزائر المكان أن يشاهد بعض الحيوانات النادرة التي لا يمكن أن تجدها إلا في الصحراء مثل قط الرمال. وهناك، تنبعث من وسط الرياح والعواصف الرملية، بحيرات وخلجان ممتدة على طول ساحل مياهه دافئة وغير عميقة. هناك أيضا، كل السكون الموجود في الكون، وأفضل مكان يمكن للإنسان أن يبتعد فيه عن صخب المدن الكبرى وضجيجها و"ستريسها"، لذلك غالبية مرتاديه متقاعدون وفنانون وباحثون عن الهدوء والطمأنينة و"راحة البال". في هذا "الثلث الخالي"، لا وجود لمراكز تسوق أو متاجر أو "سوبيريت" أو كازينو أو كباري أو أي فضاء من فضاءات الترفيه. لا وجود سوى للشمس والبحر وكثبان الرمل. ومن يرغب في الترفيه عن نفسه، فما عليه سوى ممارسة الرياضات البحرية، أو دخول مدرسة لتعلم "السورف" أو "الجيت سكي" أو ركوب الجمال في رحلة صحراوية بامتياز، أو الاستمتاع بالمنظر الساحر لغروب الشمس، الذي لا يمكنه أن يشاهد مثيلا له حتى لو جال العالم كله. هنا، لا يعرف السائح من الداخلة سوى وجهها المشرق الجميل الملون بألوان قوس قزح. لا يعرف أن المدينة تعيش بشخصيتين مختلفتين تماما، الأولى، شخصية المدينة ذات المؤهلات السياحية العالمية، والأخرى، الباهتة، الكئيبة، التي بمجرد أن تطأ قدمك أرض مطارها، ينتابك شعور بالتوتر، وبأن شيئا ما يحدث، ليس على ما يرام. سمعة سياحية عالمية رغم كل ملامح البشاعة والبؤس التي تحملها المدينة، إلا أنها تتوفر على سمعة سياحية عالمية. فهي معقل "الكيت سورفينغ" و"الويند سورفينغ" وذكر اسمها في هذا السياق، في مجلات دولية متخصصة مثل "سورف" و"ويند"، وتحتضن مباريات وسباقات كبرى في هاتين الرياضتين المائيتين. إلى جانب ذلك، تمتلك الداخلة، طبيعة خلابة، فهي شبه جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب، وتجمع بين البحر والصحراء وشواطئ تمتد على مساحة عشرة كيلومترات، شيدت على جوانبها فنادق راقية، الغالبية الكبرى من زبائنها أجانب من "زبدة" المجتمع، يبحثون عن الوجهات الغرائبية والساحرة، التي تأتي الداخلة في مقدمتها عالميا، فهي، من هذه الناحية شبيهة بهاواي أو بهافانا في كوبا وكانتون في الصين، حسب المجلات السياحية المتخصصة. هاته الفنادق، التي تتجمع كلها في منطقة "الداخلة أتيتود"، كلها مملوكة لأعيان الصحراء، في حين يشرف على تسييرها أجانب وتوظف يدا عاملة من مختلف مدن "الداخل" المغربي، إلا اليد العاملة الصحراوية، التي تفضل الاستفادة من الريع المتفشي في الأقاليم الجنوبية بشكل عام، والذي تغذيه التوترات الاجتماعية الموجودة، بسبب القضية الوطنية. نورا الفواري: موفدة "الصباح" إلى الداخلة

الداخلـة … جنة الباحثين عن الهدوء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إيقاف قاتلة رضيعتها بإسبانيا

دي نيـرو: على الممثل أن يكون حربائيا

مقالات ذات صلة