الكاريانات...ذاكرة تقاوم المحو 1 لا تجثث معاول الهدم، التي تنشط، هذه الأيام، بعدد من الكاريانات ودواوير الصفيح بالمغرب "آخر براكة" تحقيقا لمشروع "مدن دون صفيح"، بل تشطب على جزء أساسي من تاريخ المغرب الحديث وذاكرة جماعية طافحة بالأحداث والأسماء والصور والشهادات، يجتهد بعض الباحثين والأساتذة الجامعيين في الحفاظ عليه بصعوبة كبيرة. قبل الحماية الفرنسية سنة 1912، لم يكن المجال العقاري الذي بني فوقه كاريان سنطرال الأشهر والأكبر بالبيضاء والمغرب، بتفرعاته ودواويره المختلفة، غير أراض فلاحية خصبة مملوكة إلى قبائل الشاوية ومديونة التي تتكون من عدة فرق وفخذات، مثل ولاد مسعود وولاد الدايم وحرث أهل الترس وأولاد المجاطية وأولاد حدو وأولاد جرار والعمامرة وعزوقة والهراويين. ويقول الباحث محمد الفلاح العلوي، في دراسة حول الدار البيضاء وباديتها (مديونة نموذجا)، إن العلاقة كانت وطيدة بين قبيلة مديونة، مثلا، وعدد من الأجانب الذين بدؤوا يصلون إلى المغرب قبل التدخل الفرنسي، واستطاع عدد من هؤلاء الاستحواذ على أخصب الأراضي عن طريق ما كان يسمى المخالطة أو استغلال التسهيلات التي تمنحها لهم حمايتهم لبعض المغاربة في إطار ما عرف بالحماية الشخصية القنصلية. وهكذا ظهرت استغلاليات كبرى كان للأجانب والفرنسيين فيها نصيب الأسد، وهي الاستغلاليات التي تحولت في ما بعد إلى مجالات لإقامة العمال وأسرهم لإبقائهم غير بعيدين عن الوحدات الصناعية التي انطلقت بالعاصمة الاقتصادية مع وصول المقيم العام الجنرال ليوطي. وإلى فخذة مديونة، تنتمي عدد من الأسر العريقة التي كانت تملك أراضي شاسعة، مثل أسرة بوعزة بن أحمد وأسرة بوعزة بن محمد بن الطيبي وأسرة محمد بن محمد وأسرة محمد بن بوعزة. وظلت أسمـاء أســر الهــراويين راسخة فـــي ذاكرة سكان الحي المحمدي من خلال ما ينسب إلى هــذه الأسماء من أماكن، مثل بلاد ولاد هرس ودوار سي أحمد ودوار بوعزة ودرب بلقاســم وكــاريان بوعــزة ودار بوعــزة بن محمد بن الطيبــي التي مــازالت قائمــة رغــم قدمها وتلاشيها. ويقول الباحث نجيب نقي، الذي ينسب إليه أول مرجعية موثقة بعدد من الصور والوثائق والمخطوطات النادرة لكاريان سنطرال، ضمنها كتابه "جوانب من ذاكرة كريان سنطرال- الحي المحمدي بالدار البيضاء في القرن العشرين- محاولة توثيق"، إن مجال استقرار قبيلة الهراويين بالمجالات الحالية لكاريان سنطرال كان فلاحيا بالدرجة الأولى، ويظهر ذلك من خلال تصاميم الأراضي التي كانت بحوزتهم منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، بدليل احتفاظ بعضها بأسمائه الدالة على النشاط الزراعي أو الطابع القروي (عرصة، دوار، فخذة..) قبل أن تجثثها آليات الهدم وأدواته من أجل بناء "البلوكات" والكاريانات وغيرها من الوحدات العمرانية، التي ظهرت في مجال كاريان سنطرال في فترة الحماية. ومن الثابت أن النشأة الأولى لكاريان سنطرال تحكم فيها سياق التحولات الاقتصادية والصناعية التي عرفها شرق الدار البيضاء في المرحلة ما بين 1922 و1937، وتحولات مهمة في ميدان الصناعة على وجه الخصوص، التي كان لها ارتباط، بالأحداث التي وقعت في المغرب في العقدين الأولين من القرن العشرين، التي كان أهمها فرض معاهدة الحمايــة في 30 مارس 1912، كما أن تقسيم الدار البيضاء إلى منطقة الأوربيين فــي الغــرب ومنطقــة صناعية وعماليــة في الشرق، من قبل المهنــدس بروست المعين من قبل الجنرال ليوطــي المقيــم العام، كـان له أثره في ظهور هذه التجمعات السكنية بهذا الشكل "الهندسي" العشوائي التي تطورت في ما بعد إلى أحياء قصديرية كما الحال اليوم. وحسب دراسة لعدد من الروايات الشفوية وحجم كبير من الوثائق، خلص الباحث نجيب تقي إلى أن التحولات التي طرأت على الحي الصناعي الشرقي (وصول عدد كبير من الشركات الصناعية التي كانت تشتغل في المحاجر ومواد البناء التي كانت تحتاجها المشاريع الكبرى وأهما بناء ميناء البيضاء)، ترتب عنها هجرة قوية إليه من البوادي المجاورة، ثم من مختلف جهات المغرب، إذ اضطر القادمون إلى الحي الصناعي من الشاوية ودكالة وعبدة والشياظمة وتادلة والحوز والأطلس الكبير والأطلس الصغير، إلى استعمال ما عهدوه من نوع السكن مثل "النوايل" و"الخيم" (الكياطن)، قبل أن يلجؤوا، بسبب البعد عن المدينة إلى إنتاج شكل جديد، استعملوا فيه الألواح الخشبية والصفائح القصديرية وغيرها من المواد التي تلفظها المصانع القريبة، ليظهر في ما بعد شكل "البراريك"، ومعه اسم "كريان سنطرال"، للدلالة على الحي الصفيحي الذي أنشئ فوق المحاجر، ثم صار الكاريان مرادفا للحي الصفيحي في المغرب عامة، والبيضاء خاصة (كاريان كرلوطي وكاريان ابن امسيك). يوسف الساكت