رجل الأعمال الذي نال ثقة القصر و"هندس" الزلزال السياسي ويعول عليه في المهام الصعبة يترأس إدريس جطو، الوزير الأول الأسبق، المجلس الأعلى للحسابات، الذي حوّلها إلى "مصنع» لإعداد التقارير الناجحة في رصد الاختلالات بالمؤسسات العمومية وتقييم البرامج الحكومية، بالإضافة إلى تعرية المشاريع التي تخفي خلفها غابة موحشة من الملفات التي تسري فيها الفوضى، وتحيط بها حصون منيعة، إذ استطاع جطو أن يدخل أبوابها ويتوغل فيها قصد كشف المستور. منذ تعيين إدريس جطو على رأس المجلس الأعلى للحسابات، المؤسسة التي تثير رعب كبار المسؤولين والسياسيين، باعتبارها أعلى جهاز رقابة مالية وقضائية يسهر على تدبير المال العام، أصبحت أوراق الفساد تتساقط تباعا إثر التحقيقات التي يفتحها المجلس بين الفينة والأخرى، بخصوص العديد من المشاريع و المؤسسات العمومية، التي ينشر غسيلها بعد تفحص حساباتها. مهندس "الزلزال" السياسي تحول جطو إلى كابوس يقض مضجع السياسيين، وصار يعرف في الأوساط الرسمية بمهندس "الزلزال السياسي"، الذي أطاح برؤوس تسعة وزراء وأربعة عشر مسؤولا إداريا، ثبت تقصيرهم في برنامج التنمية "الحسيمة منارة المتوسط"، بعد التقرير الذي قدم جطو نتائجه وخلاصاته أمام الملك محمد السادس في 24 أكتوبر من العام الماضي. خمس عشرة دقيقة كانت كافية لكشف الاختلالات التي طالت المشروع الملكي بالحسيمة، وأعادت إلى الواجهة مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من جديد، وأحدثت حالة استنفار قصوى في صفوف الموظفين والمسؤولين بسبب خوفهم من المساءلة. بعد مرور خمسة أسابيع على زلزال الحسيمة، رفع رئيس المجلس الأعلى للحسابات للملك، تقريرا يتضمن خلاصات التحريات التي قام بها المجلس، بخصوص تقييم عمل المجالس الجهوية للاستثمار، وذلك في استقبال حظي به بالقصر الملكي بالبيضاء، الأمر الذي دفع وزارة الداخلية إلى القيام بتحريات حول عمل رجال ونساء السلطة في مختلف ربوع المملكة بسبب مراكز الاستثمار، والتي أفضت بدورها إلى فرض عقوبات على 180 إطارا من مسؤولي وزارة الداخلية، بعد رصد التقرير لحالات تقصير في القيام بالمسؤولية، إذ تم توقيف وال وستة عمال عن ممارسة مهامهم وتمت إحالتهم على المجالس التأديبية. يظهر في الأزمات يعتبر إدريس جطو أحد أطر العهد الجديد، تلجأ إليه الدولة في المحطات الصعبة، بوصفه رجل دولة يظهر فقط في وقت الأزمات، تأتي قوته من كيفية اشتغاله وعدم الانحياز والخضوع للوبيات بحكم قربه من الملك. تقلد ابن الجديدة عدة مناصب وزارية، بدءا من وزارة التجارة والصناعة في 1993، ووزارة المالية خلال 1997، ثم وزارة الداخلية في 2001، بالإضافة إلى تعيينه وزيرا أول خلال الفترة الحكومية الممتدة من 2002 إلى 2007، وفي 9 غشت 2012 عينه الملك رئيسا للمجلس الأعلى للحسابات خلفا لأحمد الميداوي. رجل الأعمال ازداد إدريس جطو في 1945 بالجديدة، تخرج من جامعة محمد الخامس بالرباط في 1966 بشهادة في العلوم الفيزيائية والكيميائية، وأحرز بعد ذلك شهادة في التسيير من جامعة كوردوينرز في لندن. قدم جطو من عالم المال والأعمال، وتمكن من أن يصبح رجل أعمال مؤثرا رغم أنه لا ينتمي إلى عائلة نافذة، ذلك أنه ابن تاجر سوسي بسيط، لكنه نجح في إيجاد موطئ قدم له في الاقتصاد الوطني، إذ بدأ مساره المهني موظفا لدى شركة "باطا" للأحذية، لينشئ بعد ذلك مقاولته الخاصة في صنع الأحذية، قبل أن يؤسس مجموعة "أودربي" التي ستصبح رائدة في مجال صناعة الأحذية بالمغرب، مستفيدا من النمو الذي شهدته قطاعات النسيج والسياحة في تلك الفترة. بالموازاة مع ذلك، احتل جطو عدة مناصب رئاسية مثل ترؤسه للجامعة المغربية للصناعات الجلدية، وانتخابه نائبا لرئيس الجمعية المغربية للمصدرين وكذلك عضويته في مكتب الكونفدرالية العامة للمقاولات بالمغرب. "جوكر القصر" تولى جطو أول منصب وزاري في حكومة كريم العمراني، بتعيينه وزيرا للتجارة والصناعة بعدما حظي بثقة الحسن الثاني، الذي أعلن أن المغرب يعيش مرحلة السكتة القلبية، لذلك قرر تشكيل حكومة تقنوقراطية هدفها إنعاش الاقتصاد الوطني، فوقع الاختيار على جطو سيما أنه عرف خلال تلك الفترة -ولا يزال- في الأوساط الاقتصادية بسمعته الجيدة في مجال التدبير والتسيير. تزامن بروز جطو في الرقعة السياسية مع إطلاق إدريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، لما سمي بـ "حملة التطهير» في وسط رجال الأعمال بهدف إيقاف عملية تهريب الأموال إلى الخارج، خاصة أن المرحلة عرفت أكبر موجة لهروب الاستثمارات الأجنبية من المغرب، ما أثر سلبا على الاقتصاد الوطني وانعكس ذلك على الأوضاع المالية للمواطنين. بعد تولي محمد السادس للعرش خلال أشهر قليلة، جدد الثقة في إدريس جطو الذي ابتعد عن الأضواء وعاد إلى تدبير مشاريعه الخاصة إثر انتهاء مهامه الحكومية، لكنه هذه المرة سيكلف بتمثيل مصالح الأسرة الملكية داخل مؤسسة "سيجير» التابعة لشركة "أونا» ومجموعة "ماروك سوار» والمكتب الشريف للفوسفاط، لكن مهام جطو لن تنتهي هنا، بل سيعود بقوة إلى العمل الحكومي، حين سيتم تكليفه بحمل حقيبة وزارة الداخلية في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، لتسند إليه في ما بعد الوزارة الأولى بعد الاستغناء عن اليوسفي الذي غادر المغرب إلى أوربا، وقد قلب خلال ولايته الحكومية جميع التوجهات السياسية التي شرعت فيها حكومة التناوب إلى توجهات اقتصادية. عرف التقنوقراطي إدريس جطو بالحياد وتجنب الدخول في الصراعات السياسية الهامشية، وانكب على الملفات الاقتصادية التي تهم بالأساس مستقبل المغاربة، ولم تشهد ولايته الحكومية أي صدامات سياسية كبيرة أو إضرابات وطنية كثيرة، ما جعل حصيلته إيجابية ومشرفة مقارنة بالحكومات المتعاقبة على المغرب. مجلس الحسابات ينشر الغسيل سلم جطو مفاتيح الوزارة الأولى لعباس الفاسي، ورجع إلى إدارة أعماله الخاصة، لكنه سرعان ما عاد إلى منصب المسؤولية من خلال تعيينه رئيسا للمجلس الأعلى للحسابات في 2012، إحدى المؤسسات الدستورية الإستراتيجية في الدستور الجديد. بعد أشهر قليلة على تعيينه، اقترح عليه حزب العدالة والتنمية تقلد منصب وزير الداخلية، إلا أنه رفض العرض بلباقة في انتظار إشارة جديدة من "المخزن" الذي عاد إلى أحضانه بعد التعيين الجديد. حوّل جطو المجلس الأعلى للحسابات إلى "مصنع" لإعداد التقارير الفعالة والناجحة في رصد الاختلالات بالمؤسسات العمومية وتقييم البرامج الحكومية، فضلا عن تعرية المشاريع التي تخفي خلفها غابة موحشة من الملفات التي تسري فيها الفوضى، وتحيط بها حصون منيعة، إذ استطاع جطو أن يدخل أبوابها ويتوغل فيها قصد كشف المستور. أنجز المجلس تقارير كثيرة ومهمة دقت ناقوس الخطر وخلفت استنفارا في هذه المؤسسات التي شملها التقرير، مثل تقرير تدقيق الحسابات السنوية للأحزاب السياسية وتقييم نظام الوظيفة العمومية خلال أكتوبر من السنة الماضية والصندوق المغربي للتقاعد والمراكز الجهوية للاستثمار وغيرها. عن "جون أفريك" بتصرف ترجمة: مصطفى شاكري