جرادة … الغضب الأسود

غياب بدائل اقتصادية بعد إغلاق المناجم والحدود الشرقية أزم أوضاع سكانها تعيش جرادة تلافيا لأي تطور غير محمود العواقب، وصيانة لمكتسبات حراك اجتماعي محض لم يتلون بأي لون سياسي أو نقابي أو حقوقي، رغم دعمه من قبل عدة هيآت. إعداد: حميد الأبيض – تصوير: أحمد العلوي المراني (موفدا الصباح إلى جرادة) حادث وفاة الشقيقين غرقا ونجاة ثالث بعد تدفق جيوب مائية من بئر يعملون بها قريبة من حي المسيرة، منطلق تلك الاحتجاجات المتواصلة، أحيى النقاش حول إغلاق مناجم الفحم الحجري ب"قرار سياسي لإجهاض وعي عمالي بمدينة شاهدة على ميلاد أول نقابة مغربية"، وفسح المجال لاستخراج الفحم بشكل عشوائي. سواد الحياة الليل أسدل خيوط سواده الغامق عند مشارف العيون الشرقية، قبل كيلومترات طويلة من جرادة. لكنه لم يحجب صورا مؤلمة لطبيعة شبيهة بأهلها في العطاء والكرم والغبن و"الحكرة". طريق مقفرة بحركة سير ضعيفة وتشوير كاشف خطورتها وأودية جافة تتغول شتاء فتقطع حبل المرور لمدد متفاوتة. "جرادة ما هيش هانية". ذاك جواب شاب أرشد غريبين إلى طريق مدينة واعدة ولدت من رحم مناجمها أولى النقابات، مختصرا حالها المبكي لزائرها قبل أهلها الذين انقطعت سبل ووسائل عيشهم بإغلاق المنجم والحدود الشرقية وكل أشكال التهريب، في انتظار أن تلين قلوب المسؤولين وترأف لحالهم المؤلم. طيلة الطريق صدحت حنجرة الشاب ميمون، بالأمل رغم الألم وعذاب أرض انتفضت ضد مستنزفيها. ولم تكبح حماسه إلا إشارة من دركيين، ملزمة للتوقف لمراقبة أوراق السيارة والتثبت من هويتي راكبيها في إطار إجراءات زادت قبل أسبوع أعقب تفجر غضب سكان مكتوين بلهيب فواتير أحرقت جيوبهم. السواد عنوان الحياة والموت بجرادة المدينة الحدودية الغاضبة. سماؤها ملبدة بغيوم مائلة للسواد إيذانا بطقس شتوي بطله برد يزيد من عذاب سكان أضناهم البحث عن قوتهم اليومي في آبار فحم حجري أكثر سوادا من أفئدة نافذين بمالهم وسلطتهم دون النفاذ إلى أعماق أرض تبتلع الباحثين عن رغيف أسود. من بعيد يتراءى السواد عاليا في سمائها، مختصرا مسافات بؤس عمر طويلا بأرض معطاءة استنزفت ثرواتها الطبيعية عن سبق إصرار، فماتت سبل الحياة الكريمة بين جبالها الحاجبة عناوين غضب منطلقه فواتير كهرباء صاعقة، وتفجر بدفن شقيقين تحت أنقاض بئر فحم بلون ومرارة حياتهما البئيسة. مدينة أشباح بدت جرادة كما لو كانت مدينة أشباح مهجورة من الآدميين من مدخلها إلى وسطها. قليلون من شبابها هرولوا مسرعين في اتجاه منازلهم في ليلة باردة ارتفعت فيها سرعة رياح شرقية دون عجلة تنمية. جلهم لم يلتفتوا لمناد محتاج مرشدا لطريقه، كما لو كانوا خائفين من كل غريب لا معرفة مسبقة لهم به. وعكس مدخلها بدا وسطها أكثر نشاطا وحركية سيما قرب الثانوية وقريبا من دائرة الشرطة حيث بدت التعزيزات الأمنية مكثفة استعدادا ل"جمعة غضب" أعلنها قادة الحراك قبل تشبثهم بالإضراب العام وإلغائهم المسيرات اليومية التي نفذوها طيلة أسبوع، للفت انتباه المسؤولين إلى مطالبهم الاجتماعية. البرد قارس والريح أقوى وأجواء الحزن والغضب جلية في كل ركن بمدينة لا حديث فيها إلا عن مآل الحراك الاجتماعي الأكثر تأطيرا، أمام تدافع مكوناته بين رافض لإلغاء المسيرة ومتحمس لذلك حفاظا على سلمية الاحتجاج وحتى لا يزيغ عن سكته وتفويت الفرصة على محاولة الاختراق والتخريب. بدت المدينة بهية بأضوائها في كل شبر وسطها دون مدخلها، كما طرقها الأفضل مقارنة مع تلك التي تربطها بمحيطها خاصة في اتجاه منطقة بني مطهر، لكن "المزوق من برا أش خبارك من الداخل" مثل يمكن إسقاطه على حال سكانها غير الراضين عن تدني أوضاعهم الاجتماعية التي تفاقمت بإغلاق المناجم. "لا صناعة ولا تجارة أو فلاحة في غياب مركز للبحث الزراعي" يقول حقوقي أكد أن مشروعا لتقطير أزير وئد بعد تدشينه قبل عقد على الطريق الإقليمية بين جرادة والعيون الشرقية، وكان يمكن أن يخفف من عطالة الشباب، لتبقى "السرحة فالحلفة والشيح، مآلهم" يقول بنبرة لا تخلو من سخرية لاذعة. تأزم الأوضاع تأزمت أوضاع جرادة وسكانها بشكل كبير وغير مسبوق منذ 1998، بعدما أغلقت مناجم الفحم الحجري بعد 71 سنة من الشروع في استغلالها من قبل شركة بلجيكية في عهد الاستعمار، بداعي نفاد مخزون المادة المقدر ب100 مليون طن، ما يفنده الواقع باستمرار إثر توالد الآبار العشوائية التي خلفت عدة ضحايا. انقطعت موارد عيش مئات الأسر الفقيرة، ولم تفعل الاتفاقية الاقتصادية والاجتماعية الوثيقة المراهن عليها حينئذ لتجاوز الوضع، ليعلو الموت مدينة عمالية تقلص عدد سكانها بأكثر من 50 بالمائة، من 85 ألف نسمة إلى 43 ألفا فقط حاليا، أغلبهم هجروها بحثا عن سبل عيش أفضل، خاصة إلى إسبانيا. والنتيجة "المدينة الأولى وطنيا في معدل الفقر وتتصدر المدن من حيث نسب البطالة البالغة 37 في المائة وحاضنة ل19 ألف أرملة" يسرد محمد الوالي، عضو فرع الجمعية المغربية بالجهة الشرقية، مستندا إلى إحصائيات مندوبية التخطيط، بعدما "تنكر الكل لجرادة، بمن فيهم سياسيون وأصحاب رؤوس الأموال". ويضيف "جرادة الآن مدينة مهجورة مرشحة للاختفاء من الخريطة أمام تناقص عدد سكانها، ما يطرح علامات استفهام تحتاج إلى أجوبة وبرامج تحد من هجرة أبنائها لمدن الأصل أو المدن الكبرى"، بعدما كانت توفر 40 في المائة من الطاقة سيما من الفحم الحجري ومن قبل المركز الحراري لتوليد الطاقة. هذا المركز أنجزه الروس في 1972، وكان يشغل نحو 250 عاملا، لكنه بات مهددا بالإغلاق قريبا بعد بناء الصين لآخر يعتمد كليا على يد عاملة أجنبية، ما سيزيد من تقليص فرص الشغل وتأزيم الأوضاع، وينذر بما هو أوخم، ما لم تستنهض الدولة وسائلها لإنقاذ المدينة من السكتة القلبية الوشيكة. بؤرة توتر لم يستسغ إسماعيل الإسماعيلي، عضو الجامعة الوطنية للتعليم (التوجه الديمقراطي)، تبرير إغلاق مناجم الفحم الحجري بنفاد مخزونه. ودليله استمرار الحفر بطرق بدائية تهدد حياة عمال الآبار العشوائية، ما يخلف وفيات، مؤكدا أن "القرار سياسي بامتياز لكبح الوعي العمالي المتجذر بهذه المدينة العمالية". من رحم مناجم جرادة ولدت أول نقابة مغربية (الاتحاد المغربي للشغل) في 23 مارس 1955 بقيادة الطيب بن بوعزة منافس المحجوب بن الصديق، بعد لقاء يعرف ب"عكاية"، بعد تجربة رائدة لعمالها المنخرطين منذ أواخر ثلاثينات القرن الماضي، بالكونفدرالية العامة للشغل على عهد الاستعمار. وبذلك "تحولت جرادة لبؤرة توتر بالنسبة إلى الدولة" يقول الإسماعيلي رابطا بين هذا التوهج العمالي وإغلاق المناجم، فيما قال زميله الوالي إن دواعي الاحتجاج الذي تعرفه المدينة حاليا "قائمة قبل الإغلاق وبعده، لعدم استفادة المنطقة الواقعة في أقصى المغرب، من فرص التنمية وتضررها في عدة مجالات". وزاد إلغاء صندوق المقاصة والزيادات المتتالية في أسعار المواد الأساسية وغياب فرص الشغل وضعف الخدمات الصحية، في تأجيج الأوضاع وصعوبة العيش بمدينة شبح تضاعف فيها عدد المصابين بمختلف الأمراض المزمنة والتنفسية والحساسية والسرطان، وضعف خدمات المستشفى الإقليمي. وأكثر من ذلك يشكل مرض السحار الرملي أو "السيليكوس"، برأي الحقوقي الوالي، خطرا حقيقيا على عمال المناجم، مشيرا إلى أن كل تلك العوامل مجتمعة، ساهمت في تنامي فورة الغضب قبل أن تتفجر باكتواء السكان بغلاء فواتير استهلاك الماء والكهرباء، ووفاة الشقيقين بعد يوم من أول شكل احتجاجي. تحكم نافذين لم يتقبل سكان جرادة إغلاق المناجم وتبرير ذلك بنفاد المخزون، ولجوء الدولة إلى استيراده من جنوب إفريقيا وبولونيا وأوربا الشرقية مقابل 900 درهم للقنطار، بعد القفزة التي عرفتها أثمنة الطاقة وبرميل البترول والغاز، بعدما كان ثمن الفحم الحجري بجرادة، لا يتعدى 400 درهم للقنطار الواحد. المريب بعد قرار وزارة الطاقة والمعادن تنظيم القطاع إثر إغلاق المناجم، استحواذ نافذين في عالمي السياسة والمال، على رخص التنقيب والاستغلال والتسويق التي توزعها، وتحكمهم في أماكن الاستغلال وإلزامية البيع لهم والتضييق على كل من لا يسير في فلكهم، وابتزازهم في مبالغ مالية خيالية. وتحدث مصدر حقوقي عن عدة خروقات تطول دفاتر التحملات وفرض مبالغ مالية باهظة على ناقلي المادة وعدم احترام شروط العمل أو إخضاع العمال إلى القوانين المعمول بها في مدونة الشغل، ما يجعلهم عبيدا في أيدي هؤلاء يستغلونهم أبشع استغلال، ويزيد من مخاطر عملهم دون شروط السلامة. ودليله وفاة 43 شخصا منذ إغلاق تلك المناجم قبل نحو عقدين، آخرهم "شهيدا الخبز المر" اللذان لقيا حتفهما، أخيرا، وكانا سببا في تأجيج احتجاجات أبناء المدينة، وبينهم طفلة صغيرة كانت في زيارة لعائلتها بالمنطقة، سقطت في بئر عشوائي غير مغلقة، على غرار عدة آبار تترك على حالها. وقال الحقوقي محمد الوالي إن مصالح مندوبية المياه والغابات بدورها تتحمل المسؤولية، بغض النظر عن الاستغلال البشع، متحدثا عن أكثر من 100 شجرة تقطع، منبها إلى الخطر الذي يشكله عدم ردم آبار الفحم على سلامة الأشخاص، متمنيا تعاملا حازما للسلطات مع خارقي القانون في المجال. كرونولوجيا الغضب انطلقت شرارة الغضب بجرادة الخميس 21 دجنبر، بتنظيم سكان حي المسيرة وقفة عفوية حاشدة وغير مسبوقة أمام العمالة ضدا على غلاء فواتير استهلاك الماء والكهرباء، التي فاق بعضها 1000 درهم، إذ رفضوا أداءها، مصرين على مواصلة الاحتجاج السلمي بخطوات تصعيدية للمطالبة بمراجعتها. وما لم يضرب له أحد حسابا، سقوط شقيقين في حادث جديد من حوادث الساندريات قريبا من الحي ذاته، في خبر مفجع أجج غضب الجميع بشكل تضاعف أمام بقائهما نحو 30 ساعة تحت الأنقاض، وعجز الوقاية المدنية عن انتشالهما بالسرعة اللازمة، لبساطة الوسائل التقليدية المستعملة في عملية الحفر. وتحدث مصدر حقوقي عن إحباط "محاولة تهريب السلطات جثتي الضحيتين من مستودع الأموات ودفنهما ليلا بمقبرة المدينة، لامتصاص غضب المحتجين، زاد من تأجيج الوضع"، قبل انطلاق مسيرات يومية طيلة أسبوع، بدءا من الثانية زوالا، مرت "في انضباط تام". مسلحين بالأعلام الوطنية التي تقدمت المسيرات التي شارك فيها الصغار والكبار، خرج مئات المحتجين يوميا للتعبير عن سخطهم مما وقع، رافعين لافتات وشعارات حماسية بينها "في كفي حجرة شربون وعلى كتفي نعشي. وأنا أمشي، وأنا أمشي" على إيقاع أغنية الفنان مارسيل خليفة. وقال الحقوقي والنقابي محمد الوالي إن تلك الاحتجاجات توجت بإضراب عام الاثنين الماضي، دعمته نقابات الاتحاد المغربي للشغل والفيدرالية الوطنية للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والجامعة الوطنية للتعليم (التوجه الديمقراطي) والجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومكونات فيدرالية اليسار. وأكد أن تلك الهيآت داعمة للأشكال الاحتجاجية المنظمة وليست طرفا منظما لها، للمطالبة بمراجعة فواتير استهلاك الماء والكهرباء وفتح تحقيق لتحديد المسؤوليات في ما وصلت إليه المدينة من تدهور على كافة المستويات، والبحث عن بدائل اقتصادية حقيقية لتحقيق مطالب السكان وتنمية الإقليم. وزاد "نحن لا نمثل الحراك، بل ندعمه"، مشيرا إلى أن قرار شباب المدينة بتعليق مسيرة مرتقبة في "جمعة الغضب"، مع الإبقاء على الإضراب، جاء ردا على ما أسماه "تفويت الفرصة على محاولة اختراق الحراك والتخريب وصد الذرائع وحماية الحراك والمدينة وسكانها وممتلكات مواطنين من التخريب".

جرادة … الغضب الأسود

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

2017 ... محاربة الإرهاب

الرميد "يسقط" في امتحان التحفظ

مقالات ذات صلة