"شرشبيل" وسنافر أولاد بو علي قصة قرية أولاد بوعلي تشبه في بعض تفاصيلها قرية "السنافر وشرشبيل"، وهو ما يشير إليه طفل في الرابعة عشرة من العمر بلغة مازحة، وهو منهمك في ردم واجهة جدار بحثا عن سن أو بقايا هيكل عظمي، وقصده من ذلك أن لا أحد يعرف أين يوجد الدوار على خريطة المغرب، بل على خريطة إقليم خريبكة، رغم أنها توجد عند أقدام الطريق الوطنية الرابطة بين واد زم وخريبكة، ورغم ذلك تبدو معنويا نائية وقصية، لم يصلها بعد الماء الشروب، وتنتقل أعمدة الكهرباء من كل مائتي متر بسرعة السلحفاة. فيما لا يدرس بها تلاميذ الابتدائي إلا أربع ساعات من الثامنة إلى الثانية عشرة زوالا، لتغلق الأقسام الأربعة أبوابها مبكرا، ولا يفتح المركز الصحي بابه إلا ثلاث مرات في الأسبوع، من العاشرة إلى الثانية عشرة زوالا، يداوم خلالها ممرض واحد، في بناية قديمة لا تتوفر فيها أي أجهزة طبية أو أدوية، اللهم عبارات "الله يشافي" التي يرددها الممرض على مرضاه، أو "سير لسبيطار خريبكة". ويضطر تلاميذ المرحلة الإعدادية من أبنائها إلى الاستيقاظ يوميا حوالي الساعة الرابعة والنصف صباحا، ليستقلوا حافلة نقل مدرسي واحدة، حوالي الخامسة صباحا، قبل أن تعرج بهم لتجمع أبناء الدواوير الأخرى، وتتكدس الأجساد على بعضها، ليصلوا بعد ساعتين من الدوران إلى المؤسسة التعليمية منهكين. لذلك ليس غريبا أن ينقطع الصغار والكبار عن الدراسة ويلقوا بأجسادهم وعقولهم في ميدان المستحاثات، والبحث في جدارات جبال اصطناعية خلفتها متفجرات المجمع الشريف للفوسفاط، عن هيكل ديناصور، أو العودة إلى البيت بعشرات ومئات الأسنان الثمينة منها والرخيصة والعظام المتلاشية لحيوانات لا يعرفون عنها أي شيء. منذ أربعين سنة والسكان يزاولون هذه المهنة، لم تظهر حبا في علوم الجيولوجيا، بل خرجت من رحم انتهاكات المصلحة العامة، التي انتهجها منذ القدم المجمع الشريف للفوسفاط، وهو هنا، حسب قصة الطفل "شارشبيل"، "بعد أن استولى المجمع على أراضي الفلاحين، وبعد أن دمر آبارهم، ظهرت هذه المهنة، والتي كانت ومازالت تشكل منبع رزق الأغلبية، إذ يمتهنها الصغير والكبير، وحتى التلميذ حين يغادر المدرسة فهو يعرف جيدا أنه سيتوجه إلى مجال المستحاثات". القصة إذن يعلمها الصغير والكبير، ويتقاسمون تفاصيلها، ومنهم أبناء الفلاحين، الذين تحيط بيوتهم الحقول والآبار، غير أنها غير نافعة، "غير نحفر شي بئر، ونفرح به، كيفجر لوسيبي المينا، ومن تم تيبدا يخوا البير". استعانة الشركة بمتفجرات في أراضيها للتنقيب عن الفوسفاط، تدمر بعض آبار المنطقة ما يضطر معه الفلاحون إلى التخلي عن مزروعاتهم والارتماء في حقول المستحثات. كنـــوز وصفة المجمع الشريف للفوسفاط أو"شارشبيل" أخطأت هدفها وصنعت سنافر أولاد بوعلي، الذين يخرجون فجر كل يوم، بحثا عن كنوز حقب تاريخية غابرة، لا يعرف قيمتها الحقيقية إلا سماسرة أجانب يحلون بشكل دوري بالمنطقة، "الطالياني والإنجليزي هما الأكثر اللي استفادوا من هنا" يقول رضوان بلعثماني، أحد أبناء المنطقة وهو أيضا منقب، مضيفا أن أجنبيا معروفا في المنطقة منذ سنوات طويلة ب"الطالياني"، يأتي من فترة إلى أخرى، ليجد في انتظاره كنوز التراث الجيولوجي المغربي، "حاليا دفع عربون بقيمة 60 مليون سنتيم، وبعد فضيحة الديناصور، عاد إلى بلاده، ولم يرجع بعد لشحن سلعته التي تنتظره في بيوت بعض التجار". إذا كان "الطالياني" مختصا في الهياكل العظمية، التي يقتنيها بملايين السنتيمات، من التجار، فيما لا يتجاوز نصيب المنقب إلا بضعة آلاف من الدراهم منها، فإن الإنجليزي مختص في نوع خاص من هياكل طيور يزيد طولها عن مترين ونصف متر، ولها رأس حجمه نصف حجم رأس الإنسان، حسب ما أكد منقبـــون من أبناء الـدوار، مشيرين إلى أنهم بدؤوا يعرفـــون قيمــة بعض الهياكـــل، غير أن التجار يغلقـون عليهم كــل المنـــافــذ لترويجها بأنفسهــم، "أحيانا أعثر على هياكل قيمـــة تـاريخيا، ويمكن أن أبيعهـا بعدة ملايين، لكن التجار الذين يحوزون رخصا لترويج المستحثات ويغلفون مهنتهم الحقيقية بغطاء الصناعة التقليدية، يمنعونني من بيعها للأجانب، وقد تبقى القطعة في بيتي حتى سنة دون أن يشتريها مني أحد، أما حين أفــوتها للتاجر أو لأحد سماسرة الأجانب تباع بسرعة البرق" يقول أحد التجار العشوائيين. ولم يكد الرجل يتمم جملته، حتى رن هاتفه، ليغرق في مساومات "الراس بخمسة آلاف درهم... كاين اللي بغاه بكثر ولكن عطيتك الكلمة". وتلك كــانت آخــر عبـارة في سلسلة عبارات تفاوضية حول ثمن رأس حيوان بحري نادر ومنقرض منذ مئات السنين، يعطيه السكان اسم "المعزة"، كما يعطون هياكل ومستحاثات أخرى اسم "الفكرون" و"الجرانة" و"التمساح". وحسب شهادة منقبين فـــإنهـــم عثـــــروا على هياكل غريبة لدينــاصــورات بحرية وأضراس الفيل البحري البنية اللامعة والطيور الغريبة، غير أنهم لم يستفيـــــــدوا من ثمنها الحقيقــــــي، "لا نحظـــــــــــــى إلا بالفتات، وهــو ما يضمن لنا قــــوتنا اليومي فحســــب، ومنا من يكسب 6 آلاف درهم إلى 7 فــي الشهــر، كما منا من لا يتجاوز مدخولــــــــــه 2500 درهم، حسب ما تحصل عليه من قطع". أكوام الأسنان تحرك اقتصاد البيوت أغلب الأطفال يشتغلون في البحث عن أسنان القرش وحيوانات بحرية منقرضة لا يعرفون طبيعتها، لذلك لن تستغرب حين تصادف في باحة بعض المنازل بالدوار أكوام الأسنان متراكمة فوق حصير أو مكدسة في أكياس "أسنان الديناصور نبيعها ب20 إلى 25 درهما، وكذلك أسنان التماسيح، أما أسنان الفيل البحري فنادرة، ويباع الضرس الواحد منها ب6 آلاف درهم، أما أسنان الأسماك فتباع بالكيلوغرام إذ يقتينها تجار الجملة من المنقبين ب 20 درهما لكل كيلوغرام، ويبيعها هو ب75 درهما، أما أسنان التماسيح والديناصورات فتتراوح بين 250 درهما و300 للكيلوغرام الواحد، فيما يبيعها التاجر ب600 إلى 700 درهم"، يقول حميد أحد منقبي الدوار، مضيفا أنه يعرض رؤوس ديناصورات ركب عظامها بنفسه قطعة قطعة، ب30 ألف درهم، والصغير منها ب5 آلاف درهم، وهي تفقد حسبه قيمتها لأنه لا يجدها متكاملة، بل "أبحث عن العظام وأركبها بنفسي، وأجد الأسنان في مكان آخر لأركبها في الفك بطريقتي الخاصة، وهذا ما تعلمته من والدي، الذي يزاول هــذه المهنـة منذ الثمانينات بعد أن طرد من معمل الفوسفاط بعد إصابته في حادث شغل". يقتني أجنبي إنجليزي، كما يؤكد المنقبون أطنان الأسنان، ويحملونها في شاحنات كبيرة، "أحيانا يقتني أربعة أطنان منها، ويأتي تجار جملة من أرفود وميدلت من أجل اقتناء هذا النوع على وجه الخصوص". تجارة الأسنان الأكثر ترويجا في المنطقة، لأنها تضمن حتى للنساء فرصة عمل، "تتقاضى النساء 10 سنتيمات عن كل سن تعد لتصبح ديكورا أو جوهرة تعلق في سلسلة، وإذا ما عملت الواحدة منهن بنشاط فإنها ستجني 150 درهما في اليوم". إذا كانت بعــــض بيوت درب السلطان بالبيضاء تحــولت إلى مخازن ومستــــودعات ســرية للأغطيــــة والملابس والمواد الغــــذائية المهربة، فـــإن بعضها في دوار أولاد بوعلــي تحــولت إلى مخــازن للأسنان والعظــام المتلاشيــة والهياكل والرؤوس الغــــريبة، وبعضها تحــولت إلــى معامــل سريــة لإنتاج ديكورات غريبة، "ما يدخل في الصناعة التقليــدية يروج للمغاربة وبعض هواة جمــع الديكورات من العرب، أما التراث الحقيقي والقطـــع النادرة والنفيسة فهي التي تشكــــل ربحا وثروة حقيقية، وهي تفــــوت للأجــانب، الذين لا تتوقف سياراتهم المكتراة عن الحلول بالدوار، دون أن تسائلهم أي جهة". العلوي: "كلشي كينقز"... والدولة مسؤولة يطلق عبد الله العلوي، مدير مديرية التراث والآثار بوزارة الثقافة، ما يشبه صفارة إنذار، وهو يتلقى أسئلة "الصباح" عن الجهة المسؤولة عن حماية التراث المغربي بجميع أنواعه، "الكل مسؤول ولا أحد مسؤول، وهنا سألخص الأمر في الدولة"، يقول العلوي، قبل أن يضيف موضحا، "شي كيشرق شي كيغرب"، و"قامت وزارة الثقافة من جهتها في قضية الديناصور بكل الإجراءات اللازمة والتحقيقات جارية من قبل الأمن والدرك الملكي بخريبكة لإجلاء الغموض الذي يلف هذا الملف. وتمسك الأجنبي الذي أخرج الأحفور بأنه يملك جميع الوثائق القانونية التي اقتناه بها، لكن التحقيقات هي التي ستكشف كيف تم ذلك، ومن نقب عنه ومن أخرجه وكيف تمت صفقة اقتنائه، والمعبر الذي سلكه للوصول إلى الخارج". حديث المسؤول نفسه ذو شجون تتفرع في كل الاتجاهات، "الكل يضع يده في ملف التراث، من وزارة الطاقة والمعادن ووزارة البيئة وحتى المياه والغابات والأوقاف أيضا، والسكنى أيضا، المهم كلشي كينقز" يقول العلوي بما يشبه اللوم، قبل أن يخلص إلى أن تداخل المهام بين عدة جهات ووزارات خلق فراغا كبيرا، وسهل مهام المهربين، خاصة في التراث الجيولوجي، وبالضبط المستحثات والحفريات، "هذا المجال أصيب بنزيف حاد، لن يتوقف إلا بإخراج القانون الإطار، الذي وضعته الوزارة في 2013 ومازال موضوعا في الرفوف، رغم أنه العلاج الوحيد لهذه الأزمة". وعن مسؤولية وزارة الثقافة في حماية التراث المغربي بكل أصنافه، قال مدير مديرية التراث والآثار إن الوزارة أجرت عدة ورشات لتكوين عناصر الأمن والدرك الملكي والجمارك لحماية التراث، "كما أننا زودناهم بدليل صغير، لكن المشكل الكبير هو المجالات المتعلقة بالمستحثات والحفريات، وبالرخص التي تمنح للتجار، إذ حين نعثر على قطعة معينة ذات قيمة علمية وتاريخية كبيرة، نواجه صعوبات في استرجاعها، ونطالب وزارة الخارجية بالتدخل، لإعادتها وتعويض مقتنيها، لكن السؤال هو لم تمت أصلا عملية البيع وتحت أي غطاء؟ فغالبا ما تكون الآثار مقتناة بوثائق قانونية وليست مسروقة". وحسب مسؤول وزارة الثقافة فإنه لا توجد أي إحصائيات أو دراسة ترصد الآثار والتراث المهرب من المغرب، سواء عبر السرقة أو عمليات بيع وشراء في غياب لجن تحدد قيمة هذه المقتنيات، وإن كانت أصلا قابلة للبيع، أم أنها تراث وطني لا يباع أو يشترى. من جهتــه قال جمـركي متقاعــد، إنه لا يمكن ضبــط عمليات تهريب التــراث، مادامت هنــاك فـواتير ووثــائق تثبــت أن القطع مقتنــاة بطريقة قانونية، ولا تتدخل الجمارك إلا في حالات قليلة، تستنجد فيها بلجنة من مندوبية وزارة الثقافة، التي تحضر لمعاينة القطع التي ستعبر إلى الخارج، ما عدا ذلك فهذا مجال تطغى عليه الضبابية. كبيري: المغرب يقتني مستحاثاته المهربة من أوربا للبحث العلمي رغم أنهم لم يدرسوا علوم الجيولوجيا، إلا أن المنقبين العشوائيين، الذين يتعاطون هذه المهنة في مختلف مناطق المغرب، المعروفة بغناها بالمستحاثات، يعرفون بتدقيق أنواعها، بل قد يتفوق بعضهم على بعض المختصين، ومنهم من تعلم من الأجانب الذين يحضرون إلى المغرب بغرض الاستيلاء عليها، فيرشدون المنقبين إليها عبر عرض مجموعة من الصور عليهم. هذا ما أكده لحسن كبيري، الأستاذ الجامعي بكلية العلوم والتقنيات بالرشيدية، ورئيس جمعية البيئة والتراث، إذ أوضح أن الفوضى طغت على المجال، ولولا ذلك لتحول المغرب إلى جنة المستحثات في العالم، خاصة منطقة درعة تافيلالت، التي كانت عبارة عن كتاب مفتوح لعشاق التاريخ، يمكن العبور من أمامه وقراءته، وهو أيضا متحف في الهواء الطلق. تحول هذا المجال إلى مورد عيش لعشرات آلاف الأسر في المغرب، عرض صفحات هذا الكتاب للتخريب، وأصاب رأسه بصدمات تكاد تفقد المغرب ذاكرته الجيولوجية، "الأمر خطير جدا، نخسر مستحثات يعود تاريخها إلى 600 مليون سنة، تباع بحفنة مال، وحين نتحدث بشكل شخصي إلى بعض المنقبين والمقتاتين من هذا المجال يردون علينا بسؤال: "واشنو نوكلو الدراري؟". ديناصورات وصخور نقشية ومغارات وبقايا الإنسان القديم، وحيوانات وبيض نعام استخدمته المرأة القديمة في التزين، وحشرات وأسماك منقرضة منذ ملايين السنين حافظت على بنيتها، بل حتى قشورها وجلدها، إلى أن اقتطفتها أيادي الجشع، "عفاريت هذا المجال، استغلوا الصناعة التقليدية غطاء لتهريب كل المستحثات ذات القيمة العلمية الكبيرة التي لا تقدر بثمن، ولا يمكن وضعها في أي مزاد، غير مزاد مصلحة الوطن، مستغلين في ذلك غياب قانون مؤطر، ونفذوا من ثغرات تشتت المجال بين وزارتي الثقافة والطاقة والمعادن، وبذلك صعب ضبطه. ومن المضحكات المبكيات، يقول الأستاذ الجامعي، أن تراثنا الجيولوجي، يهرب إلى أوربا، ثم "نقتنيها منهم من أجل البحث العلمي في مختبرات الجامعات، إذ استخدمنا في مختبراتنا قطعا اقتنيناها من أوربا، وهي في الأصل مغربية وهربت. بل إنني صادفت وأنا أدرس بباريس، مستحاثات مغربية مائة بالمائة، كما لو أنهم رحلوها عبر طائرة، وكأن هذه المختبرات مليئة بتراث المغرب الجيولوجي، لكن السؤال هو كيف وصلت إلى هناك؟ والمصيبة أنه لا يمكن المطالبة باسترجاعها لأنه لا يمكن تقفي أثرها". يشار إلى أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تخصص ميزانية لا تقل عن 78.50 مليون درهم للبحث العلمي، جزء منها يروح للآثار والتراث، و883.80 مليون درهم إعانات خاصة بالجامعات، ينفق منها على تجهيز المختبرات واستيراد المواد التي تدخل في تكوين طلبة العلوم والتقنيات والأساتذة الباحثين في هذا المجال، إذ تعذر الوصول إلى الغلاف المالي المخصص لهذا الغرض بالذات، ونسبة ما ينفق منه على اقتناء مستحاثات مغربية مهربة.