تجارة المخطوطات… “البالي لا تتاجر فيه”

سياح أجانب يشعلون سوق تهريب التراث المخطوط انتعشت، أخيرا، سوق تجارة المخطوطات والكتب القديمة، بعد أن دخلت على الخط مافيا انتبهت إلى الإقبال المتزايد لمجموعة من السياح على اقتناء التراث المخطوط وتهريبه إلى الخارج بشكل فردي أو عن طريق شبكات منظمة. في هذا التحقيق تقتحم "الصباح" عالم تجارة المخطوطات والخبايا المتحكمة فيه، إضافة إلى الطرق والوسائل التي يسلكها المهربون لإفراغ البلاد من تراثها المخطوط نحو وجهات متعددة. إنجاز : عزيز المجدوب "أضحى مجال تجارة المخطوطات تحت سيطرة مافيا مختصة في تهريبها، وتحول دون الاستفادة من مخزون الوثائق والمخطوطات التي يزخر بها المغرب، بل تساهم في إفراغه من رصيد التحف الورقية، بشكل يهدد ذاكرته وتاريخه". بهذه النبرة التشاؤمية تحدث الناشر أحمد السايغ عن المخاطر التي يمكن أن تؤدي إليها تجارة المخطوطات، التي انتعشت في السنوات الأخيرة، باعتبارها واحدة من أخطر أنواع الاتجار في الآثار التاريخية، بعد أن صارت مدرة لأموال طائلة تغدقها على أصحابها، نتيجة لتزايد الطلب على المخطوطات من قبل جهات تعيد استغلالها وترفع قيمتها المالية في السوق السوداء قبل أن تهربها إلى الخارج. ويضيف السايغ أن هذه الشبكات لم تعد تنافس فقط الناشرين الذين يقتني بعضهم المخطوطات لتحقيقها ونشرها، بل صاروا يستهدفون استنزاف المكتبات المغربية وأضحت معه الخزانات الخاصة مهددة بالسرقة، إذ لا يهم تجار المخطوطات الطرق التي يحصلون بها على مقتنياتهم، فكل الغايات عندهم تبرر الوسائل، ما دامت النتيجة أموالا طائلة يحصلون عليها من هذه التجارة. أين تباع المخطوطات؟ وما هي النوعية التي يكثر عليها الطلب تحديدا؟ ومن هم تجارها ومن هم المقتنون؟ وكيف يتم تهريبها خارج المغرب؟ مكتبات الأحباس.. العلبة السوداء كانت الوجهة الأولى مكتبة شهيرة بحي الأحباس، لم يحتج صاحبها لأن يخفي نشاطه، فعلق على الواجهة الزجاجية للمكتبة عبارة "بيع وشراء المخطوطات"، في الوقت الذي زينت فيه الواجهة بنماذج مخطوطة عبارة عن مصاحف أو كتب قديمة خطت بالخط المغربي، فيما تبدو رفوف المكتبة مزينة بمؤلفات ومطبوعات قديمة. كما علق على الباب الزجاجي للمكتبة المغلق لافتة كتب عليها "مفتوح" وما على الراغب في الولوج إلى داخل الفضاء سوى دفع الباب، ليجد في استقباله صاحب المكتبة الذي يقتعد كرسيا خلف مكتب وضعت فوقه مجموعة كتب قديمة في انتظار جردها، كان منهمكا في الحديث مع زبون في حديث جانبي عن عملية بيع وشراء لأحد المخطوطات، لكن بمجرد ما استشعر حضور طرف ثالث، حتى توقف عن الحديث، ليتوجه إلي بالسؤال عن حاجتي، فما إن أفصحت له عن هويتي، حتى بادر بالمراوغة ليحسم الموقف بنبرة قاطعة "لن أتحدث في الموضوع". مخطوطات توظف في السحر والنصب عن سر تكتم أصحاب بعض المكتبات ومحلات "البازار" عن الخوض في موضوع تجارة المخطوطات، يقول "ن . ق" صاحب مكتبة لتجليد وبيع الكتب القديمة بدرب السلطان، إن الكثير منهم يزاولون هذه التجارة، بل منهم من يحتكر سوقها، في ظل تهافت السياح على المخطوطات خاصة الخليجيين منهم الذين يبذلون الغالي والنفيس من أجل الظفر بما تجود به الخزائن المغربية في هذا المجال. وتتحدد هذه المخطوطات في كتب ومصنفات قديمة يتجاوز عمرها قرونا، وتكون في مواضيع مختلفة تتراوح ما بين المصاحف وكتب الفقه والحديث واللغة والتاريخ، إضافة إلى مخطوطات "جداول السحر" وأيضا عقود البيع والمعاملات والرسوم العقارية التي يوظفها الباحثون عنها في عمليات نصب واحتيال من أجل الاستيلاء على العقارات موضوع تلك الوثائق. كما دخل إلى جانب تجارة المخطوطات نشاط آخر مواز يتمثل في عمليات ترميم الكتب والمخطوطات، إذ يقبل أصحاب المخطوطات وتجارها على محلات تجليد الكتب من أجل الحصول على أغلفة قديمة نزعت من كتب لم تعد تجد فيها عمليات الإنقاذ والترميم، ليتم إلصاقها بكتب أخرى فتبدو وكأنها أصلية، لتزيد من قيمتها المالية لدى هواة جمعها واقتنائها. ويضيف "ن . ق" أن أصحاب "البازارات" كان لهم دور في انتعاش سوق المخطوطات بالنظر إلى الطلب المتزايد عليها من قبل السياح الأجانب، وهو ما يجعل مسألة تدبير تهريب المخطوطات تتدخل فيها جهات تحاول التحايل على الجمارك ومغافلتها عبر اعتماد حيل شتى، منها ما يجدي نفعا ومنها ما ينكشف أمره. المشروع واللامشروع الاتجار المشروع في المخطوطات والكتب القديمة واضح، حسب مصدر "الصباح"، وهو الذي يكون سواء عن طريق الدولة أو بين الأفراد، وبهذا المعنى فإن الاتجار في المخطوط داخل المغرب مشروع بنصوص القوانين إذ لا يوجد هناك نص يجرم ذلك لأنه ملكية خاصة. فمثلا في القانونين 22.80 و 19.05 ، أوضحا أن مسألة المخطوطات والأرشيف والوثائق ضمن التراث الوطني، وأنه إذا كان هذا المخطوط مرتبا في عداد الآثار أم لم يكن مرتبا، فإن الاتجار فيه وانتقال الملكية من شخص إلى آخر داخل المغرب هو حق للمالك وتحتفظ الدولة في الفصل 30 من القانون 22.80 بحق الشفعة إذا أرادت أن تقتني المخطوط. إلا أن مسألة الاقتناء التي تعتمدها الدولة عن طريق المؤسسات المختصة، تطرح مشاكل أخرى، فعندما تطرح المخطوطات للبيع من قبل مالكها، خاصة إذا تقدم بها لجهة رسمية وهي وزارة الثقافة، فإن هذه الأخيرة تعيّن لجنة للخبرة لوضع ثمن لهذه المخطوطات، ويحدد الثمن على ركائز معروفة لتحديد قيمة المخطوط، مثلا موضوعه وتاريخه وقدمه وأصليته، إضافة إلى مسألة التملكات وهل أن مؤلفه معروف أم لا، وهل توجد نسخ منه أم أنها النسخة الوحيدة وغيرها من المعايير والشروط العلمية التي يمكن بها التقييم المالي. طرق التهريب ومن أجل تجاوز هذا الوضع يلجأ المهربون إلى طرق متعددة وملتوية من إجل إيصال المخطوطات إلى طالبيها خارج المغرب، وقد سبق للسلطات المغربية أن أحبطت العديد من العمليات، أشهرها العملية التي تمت فيها محاولة تهريب مئات المخطوطات العبرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إسرائيل، عبر شحنتين ضبطتهما مصالح الجمارك المغربية، إذ لجأ المهربون الذين استولوا على المخطوطات التابعة لكنيس يهودي قديم بالجنوب المغربي، ووضعوها داخل علب كرتونية لسلع تجارية. كما يعتمد المهربون طرقا أخرى كحال شحنات مهربة قبل سنوات قليلة، تم فيها حشو علب مصبرة بمخطوطات، وتهريبها إلى الخارج، إذ أفلحوا خمس مرات ولم يتم اكتشاف أمرهم إلا في الشحنة السادسة. لكن المشكل حسب مصدر "الصباح"، هو أنه حتى في الحالات التي يكتشف أمر تهريب المخطوطات من قبل مصالح الجمارك، التي تنسق مع مصالح وزارة الثقافة، يتم إجراء خبرة وتقرير في الموضوع لتحديد ما إذا كان المخطوط تراثيا أم لا. وبعد التقرير تصادر السلعة وتطبق المسطرة الخاصة بالجمارك، وهنا تطرح الإشكالية إذ لا يوجد هناك قانون مشترك يشمل جميع الإدارات، إذ أن متابعة المخالف لا تتجاوز مصادرة السلعة وتغريمه دون عقوبة حبسية، ما يفتح المجال أمامه لمعاودة الكرّة إلى أن يضبط مجددا وهكذا دواليك. سوق سوداء المشكل يكمن، حسب المصدر، هو أن الثمن الذي تمنحه الدولة، عن طريق لجنها العلمية، للراغب في بيع المخطوطات، يكون ضئيلا مقارنة مع ما يمكن أن يحصل عليه من السوق السوداء، وهذا ما يدفع البائع في الغالب إلى اللجوء إلى تجار هذه السوق ما دام الربح المالي هو محدد العملية برمتها، لذا فإن البائع يتجه لمن يدفع أكثر. ويعتبر المصدر أن هذا الوضع أحد العوامل الرئيسية لانتعاش تجارة المخطوطات في السوق السوداء، إذ أن المؤسسات الرسمية لا تخصص ميزانيات مهمة لقطع الطريق على تجار السوق السوداء، الذين يبتكرون كل الوسائل للحصول على ذخيرة المخطوطات بأي ثمن، ما دام الطلب عليها متزايدا، فضلا عن الخوف الفطري والدفين لدى المغاربة من الإدارة، إذ غالبا ما يفضل الراغبون في بيع المخطوطات عدم التعامل معها لهذه الأسباب، مفضلين السوق السوداء التي تمنح لهم مقابلا أكبر، ولا يهمهم مصير تلك المخطوطات إن كانت ستبقى في المغرب أم ستهرّب إلى الخارج. وهنا تبدأ الطريق اللامشروعة، فتجار السوق السوداء، يعلمون أن ثمن المخطوط يتضاعف مرات عديدة إن كانت وجهته السوق الخارجية، فعندما يصير الكتاب أو المخطوط موجها إلى التصدير فالمسطرة القانونية هنا واضحة، إذ يمنع التصدير بدون رخصة، كما أن التحف ذات طابع تراثي أو تاريخي أو فني وترتبط بالحضارة المغربية وتدخل في عداد الآثار، يدخل تصديرها في دائرة الممنوعات. ملكية المخطوط بين الدولة والخواص تطرح مسألة ملكية المخطوطات في المغرب مجموعة من المشاكل التي تعد مدخلا لانتعاش ظاهرة تهريبها. وفي هذا السياق يقول فؤاد مهداوي، رئيس مصلحة المخطوطات والمكتبات التراثية بوزارة الثقافة سابقا، منها أن هذه الملكية لها خصوصيتها في المغرب مقارنة مع مجموعة من الدول الجارة خاصة التي تربطنا بها قواسم مشتركة، ففي مصر مثلا تعود ملكية المخطوطات إلى الدولة فقط. أما في المغرب فالتراث المخطوط ليس تابعا لملك الدولة فقط، بل أيضا في ملك الخواص يسري عليه ما يسري على التركة من بيع وشراء وإراثة. بينما الشق الثاني يقع تحت وصاية الدولة عبر مؤسسة من المؤسسات، مثلا هناك مجموعة من المخطوطات تحت تصرف وزارة الثقافة عبر المكتبات التابعة لها، وتكون مكتبات عمومية أو متخصصة أو تراثية أو المكتبة الوطنية. وهناك أيضا المكتبات التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية منها مكتبات الجوامع والزاويا، إضافة إلى مكتبات تابعة للملحقات الثقافية للسفارات المعتمدة بالمغرب، وتعمل هي الأخرى على اقتناء المخطوطات، فضلا عن المكتبات الخاصة منها مكتبة عبد الله كنون في طنجة أو الفقيه داود بتطوان أو الصبيحية بسلا أو علال الفاسي بالرباط وغيرها. وأمام تعدد الوصايات على التراث المخطوط، يضيف مهداوي، فإنه في الغالب يتعرض للتلف، إذ ليست هناك سياسة وطنية على مستوى مؤسسات الدولة لجمع الأوصياء على التراث ضمن استراتيجية موحدة، فكل مكتبة لا تشبه الأخرى من حيث طريقة المحافظة على المخطوطات، كما أن هناك تفاوتا في إمكانيات ووسائل كل مكتبة على حدة، وبعضها لا تتوفر فيه معايير الحفاظ على المخطوطات التي تتطلب درجة حرارة معينة وإضاءة من نوع خاص. ويردف خريج المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث (شعبة الآثار الإسلامية)، أن تعدد الوصايات على التراث المخطوط، يجعل أيضا مسألة تتبع مسارات هذا التراث صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة، فقديما كانت هناك بالمغرب أسواق خاصة بالكتبيين، لدرجة أن بيع الكتب كان يتم بالإشهاد بحضور عدلين، كما أن العديد من الكتب القديمة كانت توجد بصفحاتها الأولى ما يسمى "التملكات" يدون عليها اسم مالك الكتاب أو ناسخه، وتضاف إليه أسماء من تنقل الكتاب عندهم بالشراء أو بأي وسيلة أخرى للتملك. وقبل سنوات اختفت هاته الأسواق بفعل عامل الزمن والتطور، فلم تعد المخطوطات والكتب القديمة تجد طريقها عن طريق أسواق محددة، بل صارت تصل عن طريق عملية اتجار سرية بعد أن تقلص عددها، لتتفرع السبل في التجارة بين الوجهة المشروعة واللامشروعة.

تجارة المخطوطات… “البالي لا تتاجر فيه”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

%20 من المرضى يعانون آلام المفاصل

الحمضيات تزيد المعاناة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات