“باركينغات” البيضاء… المال السايب

ملايين الدراهم سنويا يدرها قطاع بعائدات مهمة تنهبها شركات وأشخاص وحراس ومنتخبون بمبررات مختلفة من يحكم "باركينغات" البيضاء؟ وهل يعرف العمدة الجديد، أو العمدة السابق، عدد مواقف السيارات وأنواعها والفئات ومسارات الاستفادة منها وطرق الاستيلاء عليها وتوريثها أبا عن جد؟ وما الفرق بين المواقف المسيرة في إطار التدبير المفوض (نموذج شركة باغ باركينغ الاسبانية) وبين المواقف الخاضعة لنظام الكراء لشركات وأشخاص؟ وكيف يختفي الخيط الرفيع بين الرخص الاجتماعية الموجهة إلى المحتاجين وذوي الاحتياجات الخاصة (الرخص الاجتماعية) وبين رخص الريع والامتيازات وشراء الذمم الانتخابية، وماذا تعني بالضبط رخص "المواقف المخصصة" ومن يمنحها لمن ولأي سبب ومن يستفيد منها في آخر المطاف؟ التحقيق التالي يقربنا من جزء من الأجوبة في قطاع تضرب عليه مافياته الظاهرة والخفية هالة من الغموض لإقبار عائدات سنوية تصل إلى مليار درهم، أي ثلث الميزانية الإجمالية السنوية لأكبر مدن المغرب المقدرة بـ3 ملايير ونصف المليار درهم. يوسف الساكت في آخر اجتماع للجنة المكلفة بالمرافق العمومية والممتلكات والخدمات، المتفرعة عن مجلس مدينة البيضاء، قال عضو إن مصالح الجماعة تعرف فقط كيف ترخص للاستفادة من المواقف المحروسة للسيارات أو المؤداة عنها، لكن لا تعرف كيف تسحب الرخص. "من الخيمة خرج مايل" هذه الملاحظة القاسية ختم بها العضو تدخله حول نقطة تتعلق بصعوبات فك الارتباط بشركة اسبانية اسمها "باغ باركينغ" حازت، في ظروف غامضة منتصف 2007 على صفقة طلب عروض لتدبير مواقف السيارات بواحدة من أشد مقاطعات البيضاء اكتظاظا (سيدي بليوط). وأكد العضو نفسه أن الشركة استغلت مرفقا عموميا يدر ملايين الدراهم سنويا طيلة 10 سنوات، دون أن تؤدي ما بذمتها كاملا إلى مجلس المدينة، بل لم يتوصل العمدة السابق والعمدة الحالي بأي تقرير مفصل عن أنشطة الشركة وعدد مستخدميها والعدادات المشغلة والأخرى التي توجد في وضعية عطب، وطريقة احتساب المداخيل وجرد المصاريف وتحديد رقم المعاملات الحقيقي، وكذا طبيعة العقد الذي يربطه بالسلطات المحلية وطريقة تحويره وتغيير جوهره بأكبر عدد ممكن من الملاحق التي تصبح هي الأصل. فمن تكون شركة "باغ باركينغ" التي تستحوذ، حتى نهاية ماي 2017، على قطاع واسع من مواقف السيارات بمقاطعة سيدي بليوط بكل أحيائها الموجودة بعمق البيضاء، وتستفيد منذ عشر سنوات من عائدات غرامات إزالة الكماشات الحديدية (صابو) المخولة، بحكم القانون، إلى الجماعة الحضرية؟ طرح اسم الشركة الاسبانية في منتصف الولاية الأولى لأول تجرية لوحدة المدينة (2009-2003)، حين أعلن مجلس المدينة عن طلب عروض دولي، لم يطرح على المصادقة في دورة للمجلس، لتنظيم مواقف السيارات في إطار التدبير المفوض، إسوة بالتجربة السابقة لمقاطعة الصخور السوداء الموروثة منذ عهد المجموعة الحضرية لرئيسها الشهير عبد المغيث السليماني، الذي كان يشغل في الوقت نفسه رئيس جماعة "روش نوار". وحسب معطيات توصلت بها "الصباح"، فإن طلب العروض لتدبير مواقف مقاطعة سيدي بليوط كان ببعد دولي لاستقطاب أكبر عدد من الشركات الأجنبية، ورغم ذلك فإن الجماعة اكتفت بنشر الإعلان في جرائد وطنية دون إشعار دولي، وهكذا لم تتنافس على طلب العروض هذا إلا شركات حديثة العهد بتدبير القطاع، بل إن إحداثها جاء في مجمله متزامنا مع تاريخ طلب العروض، ما يعني أن هذه الشركات لا تتوفر على الخبرة اللازمة التي يفترضها تدبير القطاع. عرض مشبوه أكثر من ذلك، لجأت الجماعة إلى تفويت عقد التدبير المفوض الممنوح إلى شركة "ب.ب" بالتراضي، بعد أن قامت بفتح طلبي العروض الدوليين رقم 1i/06 و 2i/06 اللذين تم التصريح بعدم جدواهما من قبل لجنة فتح الأظرفة. كما شرعت الجماعة في التفاوض مع الشركة، التي فوض لها عقد التدبير بتاريخ 3 يوليوز 2006، في حين أن فتح الأظرفة الخاص بهذه العملية جرى على مرحلتين أولاهما بالتاريخ نفسه، وثانيهما بتاريخ 2 غشت من السنة نفسها. انطلق العمل بالصيغة الجديدة في تكتم شديد وتبادل بين منتخبين بعينهم حول طبيعة هذه الصفقة وبين نواب العمدة الذين أشرفوا على جميع التفاصيل وأنجزوا عددا من السفريات إلى إسبانيا من أجل التفاوض على دفتر التحملات ومناقشة العرض المالي. في مرحلة لاحقة، تم التجاوز على جميع الملاحظات والانتقادات في انتظار نتائج ملموسة كانت تبشر بها الشركة الإسبانية الجديدة، دون أن تفي بذلك منذ القرار الأول، إذ فشلت الأخيرة في تزويد مدار المواقف الذي يمتد عدة أمتار مربعة بالعدد الكافي من العدادات، واحترام المسافة بين عداد آخر، وهي طريقة تبين، في ما بعد، أنها مقصودة لتعويم المداخيل اليومية الحقيقية واحتساب حصة الجماعة منها. وتقول إحدى الوثائق التي حصلت عليها "الصباح"، إن نوعية العدادات التي نصبتها الشركة تتيح إمكانية التخزين الآلي لعدد الأعطاب التي تصيبها وطبيعتها وكذا تاريخ عمليات الصيانة المبرمجة لإصلاحها، إلا أن مجلس المدينة لم يرغم الشركة على أجرأة هذه الإمكانية، وبالتالي فإنها لم تستطع التأكد من راهنية إصلاح أعطاب العدادات والذي يعد واجبا تعاقديا على عاتق الشركة ذاتها". واستنتجت الوثيقة أن عدم إنجاز عمليات الصيانة في وقتها يمس بجودة الخدمة المقدمة للمرتفقين، على اعتبار أن عدد العدادات المشغلة سيتقلص بالضرورة، ما سيدفع بالمرتفقين إلى قطع مسافات طويلة للحصول على تذاكر الوقوف، ما قد يعرض سياراتهم للحجز بواسطة الكماشات، كما أن العدادات المنصوبة يمكن كل واحد منها من تقديم المعلومات عن المداخيل المحققة ومعدل الدوران الفعلي، لكن الجماعة لا تلزم المفوض لها بتفعيل هذه الإمكانية، وبالتالي فإنه يصعب عليها معرفة حجم العمليات المحققة من قبله". "عين ميكة" لم تتغاض الجماعة عن طبيعة العدادات وطرق صيانتها وتشغيلها، بل وضعت "عين ميكة" أيضا على تجاوزات الشركة في شغل الملك العمومي لوضع هذه الآلات، وفق ما تنظمه القوانين الجاري بها العمل والرسوم المترتبة عنها، ما فوت على خزينة المدينة مداخيل بقيمة 248 مليون سنتيم خلال وضع هذه العدادات. بعد هذه الثغرة التي تساهلت فيها الجماعة، بدأت الاختلالات تتساقط بالجملة حتى أنه لا يعرف لحد الآن موقع هذه الشركة من منظومة القوانين بالمدينة، ومن يتحكم فيها ومن يراقبها في غياب لجان افتحاص ومراقبة دائمة وتجنب المعنية إعداد تقارير دورية (مالية بالخصوص) تسلم إلى الجهة المفوضة. من أمثلة الاختلالات التي كانت موضوع دراسة للمجلس الجهوي للحسابات أن العقد حدد الواجبات المستحقة للجماعة في 1.300 درهم عن كل مكان للوقوف، على أن تستغل الشركة عشرة آلاف مكان. إلا أن الجماعة، باتفاق مع الشركة، شرعت في تصفية تلك الواجبات على أساس إحصاء منتظم يجرى عند نهاية كل ثلاثة أشهر قصد تحديد عدد الأماكن المزمع استغلالها، الذي يكون دائما دون 10 آلاف مكان المحددة في عقد التدبير المفوض. وبهذه الطريقة، فوتت الجماعة على ميزانيتها مداخيل بمبلغ 22.547.633.33 درهما من مطلع يناير 2008 إلى نهاية غشت 2014، علما أن عدد أماكن الوقوف المستغلة في واقع الأمر من قبل المفوض له يتجاوز أحيانا عتبة 11 ألف مكان، كما تشير إلى ذلك المحاضر الرسمية لبعض الاجتماعات المنعقدة بمقر الجماعة الحضرية. وفي وقت لاحق صرحت الشركة برقم معاملات يبلغ حوالي 1.5 مليار سنتيم في 2012، في حين أن مخطط التنقلات الحضرية المنجز في 2013 يشير إلى أن الشركة ذاتها تحقق رقم معاملات يبلغ في المتوسط 15 مليار سنتيم، وبالتالي فإن الجماعة الحضرية للدار البيضاء لا تقوم، في إطار الصلاحيات التي يخولها لها عقد التدبير المفوض والقانون رقم 05- 54 المتعلق بالتدبير المفوض، بالتأكد من صحة وسلامة رقم المعاملات المصرح به. "الكرا بحال الشرا" لا تتوقف اختلالات القطاع عند صيغة "التدبير المفوض"، بل تخترق أيضا القلعة المحصنة لمواقف السيارات في إطار عقود الكراء التي يطلق عليها البقرة الحلوب، بسبب الأموال الباهظة التي يجنيها أصحابها، وهم في الواقع مجموعة صغيرة من المستفيدين، بأسماء وشركات وهويات مختلفة، يضعون أيديهم على أكثر من 85 في المائة من المرابد العمومية موجودة في مقاطعات أساسية هي أنفا الحي الحسني ومولاي رشيد وسيدي بليوط. في جواب لعضو بمجلس المدينة يتعلق بمسطرة كراء مواقف السيارات وعددها والجهات المستفيدة منها وعائداتها الحقيقية على المدينة، نفى علمه بـ"هذا الاختراع"، كما وصفه، مؤكدا أن الموضوع لا يعرض أساسا على مجلس المدينة من أجل المصادقة، رغم أن القانون التنظيمي للجماعات ينص على ذلك، متسائلا بدوره عن سبب الغموض الذي يكتنف هذه الصيغة في تدبير القطاع. في ظاهر الأشياء، "يحرص" مجلس المدينة منذ سنوات على وضع دفتر تحملات وشروط وجزاءات وعدد المواقف المتنافس عليها والضمانة المالية، لكن سيتبين لاحقا أن كل هذه الإجراءات هي جزء من لعبة قانونية لتفصيل "الصفقة" على شركات وأشخاص بعينهم لهم طرقهم وتقنياتهم في الاستفادة من العروض، وبعد ذلك إعادة كراء جميع هذه المواقف كاملة أو مجزأة لأشخاص آخرين في إطار نوع من "المناولة". ولاحظت "الصباح" خلال تفحص عدد من العروض منذ 2006 أن العرض المالي عوض أن يعرف ارتفاعا من سنة إلى أخرى، يعرف تدنيا، يبرره مجلس المدينة في تناقص عدد المواقف، لكن لا تبرره المضاربات والكراء من الباطن التي ينهجها المستفيدون منها. وهكذا، ظل العرض يتدحرج من أكثر من 766 مليون سنتيم سنة 2011 إلى 356 مليون سنتيم في 2013. دون احتساب 2012 التي "عفا" عنها بعض أعضاء المجلس السابق لأسباب واهية في إطار ما يسمى التمديد، بمعنى حرمان خزينة المدينة من أكثر من 3 ملايين درهم لفائدة الشركات التي استفادت من الصفقة في 2011. وما بين 2011 و2014، انتقل عدد مواقف السيارات والدراجات والشاحنات القانونية (دون الحديث عن عشرات المحطات العشوائية غير القانونية التي سنعود إليها في حينها)، من 91 موقفا، إلى 62 كما هو منصوص عليه في دفتر تحملات 2014، ثم إلى 46 محطة فقط منصوص عليها في دفتر التحملات المعروض في 24 دجنبر 2015، قبل أن يعدل وتحذف منه 9 محطات ويعرض من جديد لجلسة 25 فبراير الماضي بـ37 محطة فقط. الرخص الاجتماعية...الريع الكبير يقصد بالرخص الاجتماعية تلك التي يوزعها رؤساء المقاطعات على مجموعات من الأشخاص الذين يعيشون هشاشة اجتماعية أو أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو أرامل وعاطلين في بعض الأحيان، لكن هذه الصيغة عرفت عددا كبيرا من التحولات وأصبحت الرخصة الاجتماعية مرادفا لابتزاز انتخابي أو قضاء مصلحة، علما أنه لا يوجد أي نص قانوني يخول للمقاطعات هذه المهمة، لأنها اختصاص خالص لمجلس المدينة وعمدتها بالأساس. لحد الآن، لا يوجد أي رقم حقيقي أو تقريبي لعدد حراس السيارات المستفيدين من رخص اجتماعية، أو عدد هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمة دون الحصول على رخصة، أو طبيعة المواقف والأزقة والشوارع المختصة بهذه العملية. ففي كل حارة وزقاق وشارع ثمة حارس سيارات أو حارسة سيارات بأعمار ووضعيات اجتماعية مختلفة يرتدي صدرية لامعة ويشير لك بركن سيارتك، وآخرون لا يظهرون إلا وقت المغادرة، حين يبسطون لك أياديهم لتسلم الواجب. ولا تعتمد هذه الرخص على أي معيار لتوزيعها، وأساسا تحديد المقطع الطرقي الواجب حراسته وتحديده من قبل المصالح الجماعية وليس من طالب الرخصة. ففي بعض الأحيان، يتحكم حراس سيارات من وضعيات اجتماعية "هشة" في شارعين وثلاثة أزقة، ويجنون أكثر من 60 مليون سنتيم سنويا، وهو مبلغ يفوق أجرة بروفيسور في مركز جامعي، في حين لا تتجاوز عائدات حراس آخرين 50 درهما في اليوم، بسبب ضيق المقطع موضوع الرخصة. بعض المصادر حددت عدد الرخص في 5 آلاف، لكن لا يوجد واقعيا ما يؤكد هذا العدد للأسباب سالفة الذكر، وأيضا لأساليب الفوضى التي تطبع الرخص الاجتماعية، ومن ذلك استفادة أشخاص بعينهم، بشكل مباشر أو بواسطة ذويهم، من رخصتين اجتماعيتين فأكثر في عدد من المقاطعات ويصل عدد هذا النوع من الرخص حوالي 139، كما أن 115 منها موضوع شبهة فساد واستغلال نفوذ. أكثر من ذلك أنه يوجد أكثر من 10 أشخاص يستفيدون بشكل مباشر، أو عبر ذويهم من رخص اجتماعية علما أنهم يملكون شركات تنشط في تدبير باحات الوقوف العمومية وتكتري من الجماعة بعضا من المرابد الجماعية كلما رست عليها طلبات العروض.

“باركينغات” البيضاء… المال السايب

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الملك يكرم "الفناير" بمراكش

جرائم المشاهير... سقوط التماثيل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات