عدنان كريمة: “جاستا” يُهدِّد “الشراكة الاستراتيجية” السعودية – الأمريكية

التحذير السعودي من أخطار اعتماد قانون "جاستا" في الولايات المتّحدة، كونه يُهدِّد المجتمع الدولي ويُحدِث فوضى في العلاقات بين الدّول ويُلحق بها أضراراً كبيرة، بدأ بموقفٍ اتّخذه مجلس الوزراء السعودي، مدعوماً بمنظّمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة، واتّسع نطاقه تدريجاً، حتّى شمل مختلف دُول العالَم، بما فيها الولايات المتّحدة نفسها، وخصوصاً أنّ العلاقات الدوليّة تقوم على أساس مبدأ المساواة والحصانة السياديّة، ومن شأن قانون "جاستا"، ليس إضعاف هذه الحصانة، بل تقويض مقوّماتها وضرب أهدافها. أكّدت ردود الفعل الدوليّة رفض هذا القانون، والتمسّك بما استقرّت عليه دُول العالَم منذ مئات السنين، وهو مبدأ المساواة والحصانة السياديّة، انطلاقاً من أنّه لا يجوز لدولةٍ ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دُول أخرى ذات سيادة، استناداً إلى معايير تعسّفية كوسيلةٍ لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية، ولاسيّما أنّ ذلك يُعتبر خَرقاً لاستقلال الدُّول، وانتهاكاً صريحاً لمبادئ مستقرّة في القانون الدّولي وفي العلاقات بين الدُّول. مع الإشارة إلى أنّ القانون الأحادي (كما أوضح بيان منظّمة التعاون الإسلامي) يفتح الباب أمام فوضى واسعة في العلاقات الدّولية، ويمسّ قانوناً دولياً ثابتاً ومستقرّاً، ويطاول هَيبة القانون الدّولي بأكمله، فضلاً عن أنّه قد يُطلق يد الدّول في إصدار تشريعات مُماثِلة كردّ فعل منتَظر لحماية حقوقها؛ وفي هذا المجال يبرز موقف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي شدّد على الأهمّية التي يوليها القانون الدولي لمبدأ سيادة الدّول وحصانتها من الخضوع للقضاء الوطني لأيّ دولة، مؤكّداً أنّ تبنّي أيّ تشريعات آحادية تقوِّض هذا المبدأ، يُعدّ انتهاكاً واضحاً للقانون الدّولي، مُحذّراً من أن هذا الأمر قد يؤدّي إلى تبنّي دُول أخرى لمثل تلك القوانين، ما يُحدث فوضى عارِمة في المجتمع الدّولي. وبما أن نصّ قانون "جاستا" لا يستهدف السعودية تحديداً، بل يشمل دولاً عدّة، لذلك يمكن استغلاله في رفع دعاوى فردية ضدّ أيّ دولة يمكن اتّهامها بوجود صلات مباشرة أو غير مباشرة بينها وبين أعمال إرهابية؛ حتّى أنّ البعض قد يلجأ إلى رفع دعاوى ضدّ الولايات المتّحدة، متّهماً إياها بمسؤولية التقصير عن مكافحة الإرهاب ويطالبها بتعويضات لذوي الضحايا؛ كذلك قد يلجأ مواطنون أميركيون إلى رفع دعاوى ضدّ دول أخرى يتّهمونها بمسؤولية التقصير عينها، حيث لقي الكثير من الأميركيّين حتفهم خلال الهجمات الإرهابية الأخيرة في فرنسا، ما يُعرِّض الحكومة الفرنسية لإمكانية مقاضاتها بتهمة الإهمال. ويُلاحظ في هذا المجال أنّ دولاً أوروبية عدّة، بينها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا، اعترفت بأنّها تضمّ بين صفوف مواطنيها نحو 8000 "جهادي" على صلة بتنظيم "داعش"، وفي حال إقدام أيّ منهم على تنفيذ هجوم في أيّ مكان في العالَم، سيكون باستطاعة الضحايا الاعتماد على "جاستا" في رفع دعاوى قضائيّة ضدّ الحكومة المَعنيّة. لقد بدأت محاولات إصدار قانون "جاستا" منذ نحو سبع سنوات، بهدف الحصول على تعويضات مالية لذوي ضحايا أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وفي العام 2009 تشكّلت مجموعة داخل الكونغرس، مهمّتها الترويج لضرورة صَوغ مشروعٍ ما لتحقيق العدالة لهؤلاء الضحايا. وكانت الفكرة الشائعة أن تُنشِئ الحكومة الأميركية صندوقاً خاصّاً للتعويضات، يعمل تحت إشراف الكونغرس. وفي العام 2010 تحوّلت الفكرة إلى تحميل دُولٍ أجنبية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، "مسؤولية مزعومة" عن هجمات تلك الأحداث، ومُطالبتها بدفع التعويضات المطلوبة، وذلك على الرّغم من براءة المملكة منها بنتيجةِ سلسلةِ تحقيقات قامت بها جهات أمركية. وقد أكّدت وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. أيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف. بي. آي) مرّات عدّة، أنّه ليس هناك من دليل على وجود أيّ صلات بين مُنفّذي "هجمات سبتمبر" والمملكة العربية السعودية كدولة أو مسؤولين سعوديّين، حتّى أنّ اللَّجنة المعنيّة بالتحقيق بالهجمات، أكّدت ذلك في الصفحة 28 من تقريرها. لا شكّ في أن تعرُّض الإسلام والمملكة العربية السعودية إلى حملة مُمتدَّة شرسة وظالِمة من التحريض والشحن الإعلامي الأميركي، تصاعدت بعد هجمات (سبتمبر)، وشكّلت قناعة خاطئة باتّهام المملَكة، فضلاً عن تصاعُد الشعبوية السياسية في الولايات المتّحدة؛ وقد أدّى ذلك إلى بحث السياسيّين عن كبش فداء "غنيّ" قادر على دفع التعويضات لإلقاء اللّوم عليه، وتقاطعت هذه العوامل مُجتمعةً مع انتهازية دوائر مصالح مُعيّنة، وتحديداً تحالف من المحافظين الجُّدُد واللّوبي الصهيوني والمسيحي المتطرّف، والتي عمدت إلى تضخيمٍ إعلاميٍّ تمّ توجيهه واستغلاله، بما يخدم أجنداتها السياسية داخلياَ وعالمياً. وصادف كلّ ذلك حصول الانتخابات الأميركية التي يسعى فيها المتنافسون إلى كسب أصواتٍ شعبية، مُستغِلّين أهمّية التعويضات لذوي الضحايا لتحقيق أهدافهم، مع ما يرافق التوسّع في رفع الدعاوى القضائية من ابتزازٍ ماليّ ومكاسب تلبّي أطماع المحامين الأميركيّين الذين يربحون بدل أتعابهم من ذوي الضحايا ومن الدُّول المَعنيَّة والتي لديها استثمارات ضخمة في الولايات المتّحدة، وخصوصاً المملكة العربية السعودية. وقد أجمع الخبراء على أنّ قانون "جاستا" سيؤثّر على هذه الاستثمارات ويضعها تحت خطر التجميد لمصلحة دعاوى التعويضات، الأمر الذي يُهدّد، ليس مستقبل الاستثمارات السعودية فقط، بل يشمل هذا التهديد مستقبل الاستثمارات الخليجية والعربية، وحتّى الأجنبية بشكل عامّ، لأنه يفقد "الثقة الاستثمارية" بالنظام الأميركي. وبما أنّ قانون "جاستا" مُخالف لسيادة الدّول ويتعارض معها، يتوقّع المراقبون أن تصبح الأسواق الأميركية "طاردةً للاستثمار"، وذلك انطلاقاً من أنّ العلاقات الاقتصادية الدّولية، والتي تتوَّج عادةً في حجم الاستثمارات، تعتمد على الثقة المُتبادَلة بين الدُّول التي تخلق قاعدة أمنية للاستثمارات؛ وقد اكتسبت الولايات المتّحدة على مرّ السنين مقوّمات اقتصادية وسياسية وعسكرية داعمة لتدفّق الاستثمارات التي تبحث عن الأمن والاستقرار، وخصوصاً في ظلّ سيطرة الدولار على القسم الأكبر من حجم المدفوعات الدولية، وإقدام عدد كبير من الدّول، ومن بينها دول التعاون الخليجي، على ربْط عُملتها بالعُملة الأميركية التي أصبحت بشكل أو بآخر تُسيطِر على نحو 80 في المائة من عمليّات التداول المالي والمصرفي في العالَم. لكن يبدو أنّ قانون "جاستا" جاء يُهدِّد أصول الدُّول واستثماراتها في السوق الأمركية، مُخترقاً "الخطّ الأحمر" لسيادة الدُّول وأصولها الذي تدعمه القوانين الدّولية. ويرى الخبراء أنّ هذا القانون الذي يسمح للمتضرّرين من الأعمال الإرهابية بالحصول على تعويضاتٍ مالية قد تصل إلى مليارات الدولارات لنحو ثلاثة آلاف عائلة من شأنه أن يكسر الأعراف والقوانين الدولية التي تؤكّد سيادة الدُّول، وقد استهترت بها المؤسّسات الأميركية. ومن الطبيعي أن يشمل هذا التهديد الاستثمارات السعودية في الولايات المتّحدة في ظلّ ارتفاع حدّة الخوف لدى مسؤولين مصرفيّين من أنّ أموالهم قد تُصبح هدفاً في إجراءات قانونية، لذلك فهُم يُخطّطون للحدّ من الاستثمار في السوق الأميركية. وبلغة الأرقام، ووفق تقريرٍ لوزارة الخزينة الأميركية، تمتلك السعودية سندات خزينة بقيمة 117 مليار دولار، وهي تُسهم بذلك في مساعدة الولايات المتّحدة على سدّ عجزها المالي بدعم موازنة الدّولة. أمّا بالنسبة إلى حجم الاستثمار السعودي في السوق الأميركية، فقد قُدّر بنحو 750 مليار دولار، فضلاً عن استثمارات حديثة بعد إطلاق حكومة المملكة رؤيتها لعام 2030، والتي كانت عنواناً لأكثر من 30 اجتماعاً عقده وفدٌ سعوديّ برئاسة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان لدى زيارته الولايات المتّحدة في حزيران (يونيو) الماضي، وفَرضت الزيارة لغةً قوامها الأعمال ورأس المال، وتنوّعت بين التجارة في مجالات عدّة واستثمارات المال في نيويورك، والتكنولوجيا الجديدة في وادي السيلكون سان فرنسيسكو، مع العلم أنّ صندوق الاستثمارات العامّة السعودي، استثمَر في شركة "أوبر" الأميركية للنقل بنحو 3.5 مليارات دولار، ما أفسح الطريق أمام سموّه لعقْد صفقات استثمارية مهمّة كان آخرها مفاوضات مع شركة "ابل" لاستثمارها في السوق السعودية بنسبة 40 في المائة. وتمتلك شركة أرامكو النفطيّة كامل مصفاة "بورت آرثر"، وهي الأكبر في الولايات المتّحدة، إلى جانب 26 منصّة توزيع، ورخصة "شل" لتوزيع الوقود في ولاية تكساس، ويُعدّ مشروع "صدارة" المُشترَك بين "آرامكو" السعودية و"داوكيميكال" الأميركية أكبر مجمّع للبتروكيماويات في العالَم باستثمار 20 مليار دولار. فضلاً عن ذلك، تُعَدّ المملكة أكبر شريك تجاري لأميركا في الشرق الأوسط بمستوى تبادل يصل إلى 62 مليار دولار سنوياً. وتأتي هذه الشراكة التجارية في إطار "شراكة استراتيجية" على مدى أكثر من 85 عاماً، وتعود إلى العام 1931، وقد شملت الأمن والسياسة والمال والنفط والاقتصاد وكلّ نواحي الحياة الإنسانية والثقافية بمختلف وجوهها، وتُوجّت بسلسلة إنجازات حقَّقت مصالح إقليمية ودولية، ولكن يبدو أنّ هذه "الشراكة الاستراتيجية" تعيش فترة قلق وعدم طمأنينة، فضلاً عن شيء من فقدان الثّقة، وهي مُهدَّدة حالياً بتداعيات تطبيق قانون "جاستا" الأميركي. هل يسمع الكونغرس الأميركي دعوةَ مجلس الوزراء السعودي باعتماد الحِكمة، واتّخاذ الخطوات اللّازمة من أجل تجنّب العواقب الوخيمة والخطيرة التي قد تترتّب عن "قانون جاستا"؟ ويتوقّع المراقبون المُتفائلون، بعد انتهاء تجاذبات الانتخبات التشريعية، وربما في كانون الثاني (يناير) 2017 في عهد الكونغرس الجديد، أن يُقدَّم مشروع قانون يُدخِل تعديلات تُفرِّغ "جاستا" من محتواه، ويُحافظ على مبدأ المساواة والسيادة القانونية للدول، وبذلك تنتهي تهديداته على مصالح المملكَة، وغيرها من الدُّول.

عدنان كريمة: “جاستا” يُهدِّد “الشراكة الاستراتيجية” السعودية – الأمريكية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

عاجل ... قاضي التحقيق يصدم المجرد وعشاقه من جديد

فيديو ... سيارة تحترق في طنجة تزرع الرعب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات