رضـع مـن ثـدي نعجـة

عاش موحى والحسين أشيبان، ظروفا صعبة في طفولته وجايل أحداثا سوداء في تاريخ المغرب، انحفرت بذاكرته وطالما حكاها لمعارفه، بما فيها معاناته أيام «السيبة» والجوع، لما قلت فيه هيبة المخزن وسادت قبائل بقوتها العددية باسطة نفوذها على غيرها من القبائل الضعيفة التي استسلمت لجبروت أذلها وتحكم في رقابها بقوة الحديد والنار. وينقل عنه الباحث خالد الزيواني، واقع ضياعه وعمره لا يتجاوز ثلاث سنوات، بعد اختطاف والدته من قبل قبيلة قوية بخنيفرة هاجمت قبيلته أيام «السيبة» واستولت على مخزونها من الحبوب والماشية واحتفظت بنسائها رهائن، إذ احتجزت طيلة 6 أشهر ذاق خلالها مرارة فقدان أعز الناس إليه بعد وفاة والده قبل نحو سنة من ذلك. وبما أن جده وجدته المسنة لم تتوفر لهما حيل ووسائل إرضاعه، فقد رضع من ثديي نعجة، مشاركا جديها الرضاعة منهما طيلة مدة اختطاف والدته التي ذاقت أصناف التعذيب والإذلال طيلة المدة، قبل إطلاق سراحها وعودتها إليه لتفعمه بحنانها الذي افتقده، كما تغذيته المتوازنة في زمن اعتمد فيه على ما توفره الطبيعة من مأكولات. حينئذ “كانت الغلبة للقبائل القوية التي تستولي على مخزون نظيرتها الضعيفة، باسطة هيمنتها على الأرض والعباد” يقول خالد نقلا عن المايسترو، مضيفا أن “تلك القبائل رسمت حدودا ترابية للأخرى ممنوع تجاوزها، وطالما تحكمت في منتوجها ولم تتوان في مهاجمتها إن لم تمدها بالحصة الكبرى من المحصول الزراعي ومنتوج الماشية”. ولم يكن المنتوج وحده المتحكم فيه، بل حتى الرقاب لم تسلم من البطش، وكانت أداة طيعة في أيدي قبائل لا يحكمها قانون أمام ترهل المخزن وضعفه أمام سطوتها ونفوذها المتجذر، بل طالما سخروا في حرث أراضيها وجمع محصولها بقوة الحديد، دون أن يتوانوا في إضرام النار في كل حقل أو منزل من لا ينضبط لقانون الغاب المفروض. وحسب خالد الزيواني فتلك القبائل النافذة بمنطقة الأطلس المتوسط، تسلحت بالبنادق (بوحبة) والسكاكين والمقلاع، لفرض الأمر الواقع على تلك الضعيفة، بل تم وأد الرافضين ودفنهم أحياء في مقابر جماعية، ما فرض هجرة في اتجاهات أخرى أكثر أمنا بحثا عن الاستقرار وفرارا من بطش وجبروت تلك القبائل التي استعبدتهم وأذلتهم كثيرا. وعاش المايسترو هذه الحقبة من تاريخ المغرب الأسود، كما معايشته “عام البون” لما كانت استفادة الناس من السكر والدقيق، بـ “البون” حسب عدد رؤوس الأسرة، منتصف أربعينات القرن الماضي، على عهد الاستعمار الفرنسي الذي حبس أنفاس المغاربة وخنقها إلى حد لم يطيقوه دون أن تنضج إمكانية الانتفاضة ضده. محصول أهل البادية وإنتاجهم من الحبوب والماشية والحليب واللبن والزبدة والعنب والتين والزيتون، كان خاضعا إلى مراقبة دقيقة للمستعمر بواسطة أذنابه من مقدمين وشيوخ و”أعين لا تنام”، إذ كان العقاب شديدا لمن يتملص من التصريح بحقيقة المنتوج وكميته، توفيرا لمؤونة فرنسا في حروبها خاصة العالمية منها. وأمام هذا الوضع الخانق وقلة ذات يد الفلاحين الفقراء في البوادي، ظهر نوع جديد من “السيبة” فسح المجال لقبائل جديدة للاستئساد وبسط هيمنتها على أخرى لا قوة لها، سيما بمنطقة الأطلس المتوسط التي عاشت حروبا بين قبائلها امتدت إلى ما بين الأسر والعائلات أنفسها، حيث لا مجال للعيش إلا للأقوى والأكثر نفوذا عدديا وتسلحا. ويستحضر خالد الزيواني، ما حكاه له المايسترو عن هذه الحقبة، مشيرا إلى أنه أمام الفقر المدقع، اضطر الناس أحيانا إلى أكل “الجيف” وحتى جثث الآدميين المتوفين جوعا أو في حروب محلية، في الفيافي، لما كانت الحشائش والبلوط و”كرسانة” مأكولات تؤثث موائد ناس أضناهم الجوع والمجاعة وبطش القبائل الغازية للأرض والمستعبدة للعباد. حينئذ انتشرت الأمراض على اختلاف أنواعها، وخلت الأسواق القروية الأسبوعية من بضائعها وسلعها من المواد الغذائية والألبسة، إذ كان “الناس رجالا وإناثا يسيرون عراة”، بل إن “أزواجا تنكروا لزوجاتهم اللائي لا تربطهم بهن أي وثيقة إدارية مزكية لواقع زواجهما” يقول خالد مضيفا أن “المايسترو عاين حالات لتخلي أزواج عن زوجاتهم وأبنائهم”. حميد الأبيض (فاس)

رضـع مـن ثـدي نعجـة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مقررات الشيطنة والتحريم

الناصري: كوني سيلعب معنا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات