رمضان… الغش بأرخص الأثمان

تجار يعتبرون شهر الغفران فرصة ذهبية لتعويض خسارتهم في باقي الشهور رمضان شهر المغفرة والرضوان والاغتسال من الذنوب والسيئات، لكنه أيضا شهر "الهموز" والفرص الذهبية بالنسبة إلى عدد بلا حصر من التجار والباعة والحرفيين والصناع الذين يستغلون ضعف الصائمين وقلة تركيزهم وجوعهم لممارسة أنواع التدليس والنصب عليهم. على امتداد أربعين يوميا (إذ احتسبنا 10 أيام الخاصة بالإعداد لرمضان)، تتحرر الأسواق العمومية والفضاءات التجارية والقيساريات وأسواق الباعة المتجولين من كل الضوابط القانونية والأخلاقية، ويتحول بعض تجار المواد الغذائية الأساسية الأكثر طلبا خلال هذا الشهر، إلى كائنات متوحشة مستعدة للفتك في كل لحظة، ويصبح الزبناء، في نظرها، مجرد نعاج في حظائر ذئاب ضارية تستطيع أن تفعل بها ما تشاء. في هذا الشهر يتعاقد التجار والحرفيون والباعة على عقد غير مكتوب من أهم بنوده أنه لا "أرباح خيالية" دون اللجوء إلى الغش في كل شيء تقريبا. ويعتبر التجار النزهاء في نظره زملائهم الغشاشين مجرد أغبياء لا يفهمون أصول الحرفة و"الهموز"، بل منهم من يلبس هذه السلوكات مبررات موضوعية يقنع بها نفسه ويحاول أن يقنع بها الآخرين، منها مثلا الهامش الضئيل للربح بين أسعار الجملة وأسعار التقسيط، أو أن بعض التجار لا يشتغلون إلا في مناسبات دينية محدودة، كرمضان، بينما "ينشون" الذباب على بضائعهم خلال ما تبقى من أيام السنة. بعض هؤلاء يرفضون أن يسموا الغش غشا والتدليس تدليسا، بل يطلقون عليه "شطارة" و"غفلة" بينهم وبين الزبون الذي يعرف أن الأسعار الرخيصة لبعض المواد والبضائع يقابلها نقص في الجودة. أما تجار آخرون، فلا يأبهون إلى مثل هذه التبريرات ويعتبرون التجارة بلا غش تؤدي حتما إلى الإفلاس. ويطول الغش المواد الأكثر طلبا في هذا الشهر، بدءا بالتوابل التي تخضع إلى أكبر عملية تدليس على الإطلاق، بسبب جهل أغلب الزبناء بأنواع "العطرية" ومصادرها واختلاف جودتها من نوع لآخر واختلاف الأسعار تبعا لذلك. وهنا يعمد التجار إلى اختيار أرخص الأنواع وأقلها جودة لعرضه للبيع بأسعار مرتفعة، وأحيانا بأسعار تتفاوت من محل إلى آخر في الفضاء التجاري نفسه. وبسبب ضيق الوقت، لم تعد أغلب النساء (الزبونات الأساسية لمحلات العطارين) يفضلن اقتناء التوابل والبهارات في شكلها الطبيعي، وجلبها إلى البيت، ثم عرضها في الشمس، وتنقيتها من الشوائب وطحنها بعد ذلك، بل أصبحن يفضلن "التبضع على الجاهز"، أي اقتناء كميات صغيرة من التوابل والبهارات المطحونة في أكياس بلاستيكية (توجد أيضا في الفضاءات التجارية الكبرى)، دون أن يعرفن مصدرها ومكوناتها والظروف والمكان والوسيلة التي طحنت بها. ويفضل أغلب التجار هذا الاختيار الثاني، بسبب تفاوت الأسعار بين التوابل العادية والأخرى المطحونة، وأيضا بسبب اتساع هامش الغش والربح بعد ذلك، إذ يعمد بضعهم إلى إضافة الملونات والأصباغ ومواد أخرى للتوابل قبل طحنها من أجل الزيادة في الوزن. وتمتد أنواع الغش إلى التمور والتين والبرقوق المجفف وأنواع الفواكه الجافة الأخرى التي يكثر عليها الطلب في هذا الشهر لصنع الحلويات، أو من أجل التقديم فوق موائد الإفطار. وهنا بالضبط، يلعب التجار لعبتهم الكبيرة، عبر جلب الأنواع الرديئة وعرضها بأسعار مرتفعة، أو أن يعمد بعضهم إلى المزج بين الأنواع الجيدة والأنواع الرديئة وبيعها بثمن الأولى، وأحيانا المزج بين أنواع فاسدة غير قابلة الاستهلاك، بأنواع أخرى، ولا يفطن الزبون إلى ذلك إلا بعد فوات الأوان. ولا تقف عمليات الغش والتدليس عند هذا الحد، بل تمتد إلى المواد الغذائية المعلبة، وهو أخطر ما يمكن تصوره في الموضوع برمته، لارتباط ذلك بصحة المواطنين. وفي هذه الحالة، تعمد بعض مافيات التهريب، التي تنشط في مثل هذه المناسبات، إلى تغيير تواريخ انتهاء الصلاحية داخل مخازن ومستودعات مخصصة لذلك، وطرح المواد الفاسدة وعليها تواريخ جديدة. ويفسر أطباء ومسؤولو مصالح استشفائية ارتفاع منحنى الإصابات بالتسممات الغذائية خلال رمضان، بوجود فوضى في أسواق المواد الغذائية المعلبة وانتشار كميات من المواد الفاسدة (معجنات، أجبان، لحوم مفرومة، صلصة طماطم، عصائر فواكه...) غير المراقبة التي تذهب مباشرة إلى المستهلكين، علما أن أغلب هذه المواد يعرض فوق عربات باعة متجولين (يتضاعف عددهم في رمضان) وتباع بأثمان رخيصة، مقارنة مع مثيلاتها في المحلات التجارية، ورغم ذلك لا ينتبه الزبناء إلى المقلب. يوسف الساكت

رمضان… الغش بأرخص الأثمان

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المواد الفاسدة... "بيزنس" في انتعاش

تجارة في خدمة الإرهاب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات