لماذا تنامت وتيرة ظاهرة إحراق الذات في السنوات الأخيرة؟ بالفعل، أصبحنا نلاحظ في السنوات القليلة الأخيرة ارتفاع وتيرة الانتحار بواسطة اللجوء لإحراق الذات. هذه الوسيلة تعتبر انتحارا، لكنها من أقسى طرق الانتحار، إذ تصنف هذه الطريقة أعلى درجة العنف ضد الذات البشرية، وهي طريقة مرفوضة ومذمومة من الجميع ولا تقبلها أية حضارة ولا دين سماوي. هذه الظاهرة لم تكن معروفة في المجتمع المغربي من قبل، ولكن لوحظ أنه بعد قضية البوعزيزي بتونس، التي جاءت في ظرفية اقتصادية وسياسية خاصة، وكانت لها تبعات على مستوى العالم العربي قاطبة. بدأنا نسجل بعض الحالات المشابهة في المغرب أيضا، ولا ندري هل الأمر يتعلق بالتقليد أم بأمور أخرى.لا نستطيع أن نجزم في تحديد الأسباب، لكننا نعتبر بأن المسألة تتعلق بالرغبة في الانتحار، والمنتحر عادة هو الذي يحدد الوسيلة التي يريد أن ينتحر بها.وعموما الإكراهات والضغوط الاجتماعية لا يخلو منها أي مجتمع، لكن مع ذلك، لا يمكن أن تؤخذ ذريعة لإحراق الذات. والمطالبة بالحقوق لا تستوجب بالضرورة اللجوء لإحراق الذات. لذلك لا بد من اعتبار الأسباب والدوافع التي تدفع من يقبل على إحراق ذاته هي الأسباب والعوامل نفسها التي تدفع كل منتحر للانتحار، وقد تكون بعيدة جدا عن وسائل التعبير عن الاحتجاج، أو الرغبة في إثارة انتباه المسؤولين. يلاحظ أن كلا الجنسين يقبلان على الفعل ذاته، النساء كما الرجال يحرقن ذواتهن. هل فعل الحرق صار عاديا في المجتمع وفقد تلك الهالة المرتبطة بالآلام والعذاب الدنيوي والأخروي، الذي كان يخشاه أعتى الرجال، أو أن ضغوط الحياة هي التي ارتفع منسوبها؟ إحراق الذات فعل انتحاري، والمنتحر عادة ما يكون، في هذه الحالة خارج دائرة الخوف من الموت أو الإحساس بالآلام، أو يعطي قيمة للعذاب، أو لأي اعتبار آخر، بل يكون قد اختار إحراق ذاته وسيلة يعتقد أنها ستحقق له مراده، ولا علاقة لكل هذا مع الإحساس بالآلام أو الخوف من الموت. والانتحار فعل يقبل عليه كلا الجنسين، ولا يتوقف على جنس محدد أو فئة اجتماعية أو عمرية معينة. وكذلك فعل إحراق الذات. فلماذا نستغرب عندما تقوم المرأة بهذا الفعل، فإحراق الذات ما هو إلا وسيلة اختارتها هذه المرأة لتنفيذ فعلها، ربما في اعتقادها أنها الوسيلة التي ستثير اهتمام الناس أكثر من أي وسيلة أخرى، لكن بدون أن تستفيد من اهتمام الناس بفعلها لأنها ستكون قد فارقت الحياة، أو أصيبت بتشوهات خطيرة ودائمة، ولا تخلف من ورائها سوى ردود الأفعال المتناقضة حول هذا الفعل وحول من قام به. هل هناك مواصفات خاصة تجعل فئات من المجتمع أكثر قابلية لسلك هذه الطريقة في الاحتجاج؟ فعل إحراق الذات ظاهرة إجرامية حديثة، للأسف، لا نتوفر على بحوث ميدانية ودراسات تحدد لنا مواصفات الذين يختارون هذه الوسيلة للتعبير عن احتجاجهم. لذلك نجد بعض التحاليل تنحو تجاه العوامل والأسباب ذات البعد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الحقوقي. عادة، الإنسان الذي تنزع منه حقوقه أو تنتهك كرامته أو يتعرض للظلم والتعسف، أو ذلك الذي يعاني من عقد نفسية واختلالات سلوكية يكون أقرب الناس إلى التعبير عما يشكو منه، لكن التهديد بإحراق الذات أو القيام فعلا بذلك قد يبتعد كثيرا عن القضية التي يشكو منها أو التي يعانيها.من المعروف أن الثقافة القانونية ضعيفة عند فئات واسعة من الناس، والثقة في المؤسسات تدهورت بشكل مخيف في المجتمع المغربي وآليات التعاون والتضامن بين الناس قلت، ولكن ليس كل من يعاني بسبب هذه النقائص سيلجأ إلى إحراق ذاته أو إلى ارتكاب أفعال يدينها القانون ويرفضها المجتمع وتتنافى مع الديانات والأخلاق السائدة في المجتمع. أجرت الحوار: هجر المغلي (*) علي شعباني أستاذ في علم الاجتماع