“شرع اليد” تطرف ديني

الباحث عمر الإيبوركي قال إن هناك عجزا عن استيعاب قواعد المجتمع الحداثي قال الباحث عمر الإيبوركي، إن لجوء الناس إلى "شرع اليد" شكل من أشكال العنف الجماعي الذي يرتبط بتمثلات الأفراد للمجتمع الفاضل، وأضاف أستاذ علم الاجتماع أن هذه التصرفات تستند إلى طبيعة التدين التي تعين نسق المعتقدات والطقوس والتي عبرها يحافظ مجتمع ما عن شكل التقوى والورع الجماعي، معتبرا أن هذه السلوكات تستمد مشروعيتها من العرف الذي لم يعد يصنف ضمن مصادر الحق، وتنازع اختصاصات مؤسسات الدولة الحديثة التي تمتلك تلك المشروعية، ومنها مشروعية العنف. أجرى الحوار: عزيز المجدوب عادت أخيرا إلى الواجهة مجموعة من الأحداث المتفرقة (إنزكان وبومية وبني ملال...) الجامع بينها لجوء المواطنين إلى تفعيل مبدأ تغيير المنكر بالاعتماد على "شرع اليد" لمواجهة حالات اعتبروها مستفزة لمشاعرهم الدينية والمجتمعية، ما هي الدلالات السوسيولوجية لمثل هاته السلوكات؟ إن الأحداث التي عرفتها بعض المناطق رغم اختلاف مضمونها (شكل لباس بعض الفتيات، اللصوصية، تقبيل الزوج لزوجته بالشارع العام،...) هي تعبير عن حالة من رفض العقلية الجماعية التي تؤولها إلى دلالات أخرى تشعر معها بالحرج والخجل ، فيدفعها ذلك إلى مواجهتها بالعنف سواء الجسدي أو اللفظي. يمكن فهم هذه السلوكات من خلال مفهوم الاتجاه الاجتماعي الذي هو عبارة عن ميل مناهض أو مؤيد إزاء موضوع معين. من هنا يمكن أن نقول إن تفعيل مبدأ تغيير المنكر بالاعتماد على "شرع اليد" يكون دفاعا عن بعض القيم الثقافية كالشرف مثلا الذي يعتبر من الرموز المقدسة أكثر من الرأسمال المادي أحيانا. وتستند هذه التصرفات أيضا إلى طبيعة التدين التي تحدد نسق المعتقدات والطقوس والتي عبرها يحافظ مجتمع ما عن شكل التقوى والورع الجماعي. من هنا يشعر كل فرد داخل الجماعة المتفاعلة أنه مسؤول وراعي تلك القيم التي تشربها عبر التنشئة الاجتماعية. هناك بعض مظاهر السلوك التي جاءت نتيجة تحولات المجتمع المغربي بفعل الاتجاهات والقيم المتعلقة بالنظام التعليمي، والقيم الجديدة مع تعميم التعليم، وخروج المرأة إلى العمل، والمساواة بين الجنسين، وهي القيم التي لم تستسغها العقلية بعد، وهذا من المؤثرات التي تثير استجابة البعض بطريقة عفوية وتلقائية. هل يمكن أن نتحدث عن "ظاهرة" بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، تعيد طرح سؤال من له الحق في تقويم سلوك المواطنين؟ عندما يتكرر السلوك بالكيفية نفسها، ويتجاوز مستوى الاستثناء على مستوى الكم،هنا يمكن الحديث عن ظاهرة بالمعنى السوسيولوجي، والتي تصبح قابلة للدراسة والفهم والتفسير. ففي هذه الحالات يمكن الحديث أيضا عن نوع من الضمير الجمعي، أي سلوكا جماعيا ثقافيا موروثا، أو عقلية القطيع، بعيدا عن العلاقات الاجتماعية المعقلنة، وهو ما نسميه الماقبل- مجتمعي، فهذا الضمير الجمعي الذي يحرك مجموعة من الأفراد يجعلهم يقرون بشكل صارم وبإيمان سريع بضرورة احترام ما يعتقدون أنه سلوك مثالي. إنه اللاشعور الجمعي الذي يطفو على سطح سلوك جماعة من الأفراد وتصرفاتهم، وفي هذه الحالة نحن أمام مستويين: مستوى فردي يحاول من خلاله إثبات وجوده، ومستوى جماعي يهدف إلى تحقيق غاية جماعية مثالية لا يراها في الواقع. ألا تشكل مثل هاته السلوكات نكوصا إلى الوراء ضمن المسلسل الطويل الذي دخله المغرب من أجل تأسيس دولة الحق والقانون والمؤسسات؟ هي نكوص إلى الوراء، أو لماذا لا نقول إنها تشبث بما هو تقليدي وعدم القدرة على استيعاب قواعد المجتمع الحداثي الذي يتأسس على الحقوق والواجبات، واحترام حقوق الآخرين، إضافة إلى نوع من العدوى على مستوى السلوكات الجماعية التي تلقى تقديرا من الآخرين على اعتبار أنها كرامة وعنفوان، وهكذا يتراجع المجتمع من قوة الحق إلى حق القوة. وهناك تأثير بالغ لنوع من الخطاب الذي يربط بعض الظواهر المجتمعية بانحطاط المجتمع وتخلفه، فتصبح الحاجة ماسة إلى علاجها ومحاربتها. إنها إعادة إنتاج بعض القيم التقليدية التي تنقلها المؤسسات إلى الأفراد بالحفاظ على هذه القيم ومواجهة بعض مظاهر العصرنة، والعقلنة. وبذلك يجد المجتمع العربي عامة والمغربي خاصة صعوبات وعوائق نحو المرور إلى دولة الحق والقانون. ألا يمكن أن نتحدث عن مشاهد تأصيلية لمثل هاته السلوكات بالمجتمع المغربي الذي ألفت مناطق به، خاصة في البادية، تفعيل هذا المبدأ في حق لصوص الأسواق الشعبية؟ تاريخيا عرف المجتمع المغربي أشكالا من فرض القوة والغلبة، على مستوى العلاقات الاجتماعية، وقد يطول الحديث في هذا الباب، لأنه المؤسس لكثير من التصرفات الفردية والجماعية سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى مؤسسات المجتمع ككل. وهكذا عرف المجتمع المغربي بعض الآليات التي تحكمت في الحياة الاجتماعية، والتفاعلات الاقتصادية، من العلاقة بين الجنسين (حرمان الأنثى من الإرث) إلى استغلال الأرض (أراضي العنوة، أراضي الزرواطة ...) إلى توزيع الثروات الطبيعية (قانون الحماية، الزطاطة، أمن الممرات...). وقد لعب العرف دورا كبيرا في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية (الزواج، الإرث، تملك الأرض، حل النزاعات) وكانت الجماعة هي من يسهر على تطبيق تلك الأعراف.كما ارتبط ذلك بالمقدس، وكل من يخرج عن نطاق هذه الأعراف فهو خارج عن الجماعة، جاحد بقيمها. كما لعبت بعض الفئات كالصلحاء دورا كبيرا في الحفاظ على توازن الجماعات، اعتقادا في قدسيتها.....من هنا يمكن أن نجد جذورا لمثل هذه السلوكات التي تستمد مشروعيتها من العرف الذي لم يعد يصنف ضمن مصادر الحق، لأن مؤسسات الدولة الحديثة هي التي تمتلك تلك المشروعية، ومنها مشروعية العنف، بينما العرف يصنف ضمن آليات القمع لدى المجتمعات التقليدية حسب ماكس فيبر، أو تلك المسماة ميكانيكية حسب تصنيف دوركايم. وارتباط هذه السلوكات بالعرف المقدس، هو ما يعطيها المشروعية عند الأفراد، وهذا ما يجعلهم يعيشون نوعا من الانفصام المجتمعي يتجلى ظاهريا في تأصيل هذه السلوكات، وباطنيا في ممارسات مفارقة، فيكون المجتمع كالذي ينهى عن خلق ويأتي مثله. العنف والخيال الاجتماعي الرمزي إن لجوء الناس إلى "شرع اليد" شكل من أشكال العنف الجماعي الذي يرتبط بتمثلات الأفراد للمجتمع الفاضل، وهو نوع من الخيال الاجتماعي الرمزي الذي يدفع الفرد المتفاعل داخل الجماعة إلى ممارسة ضغوط قوية على نفسه، بغية حل المشاكل الاجتماعية ومحاربتها اعتمادا على مرجعية ثقافية يربطها بالدين، وهو بذلك ينتزع سلطة مؤسسة الدولة دون أن يدري. هنا تطرح العلاقة بين السلطة والمجتمع، لعل الإرث التاريخي يجعل من السلطة أداة للسيطرة والنفوذ، بدل خدمة المواطن وتنمية الوطن، ولا غرابة أن يتحول رد فعل المواطن إلى أشكال من الانتقام، منها "شرع اليد"، لأنه يعتقد أنه شرع الله. وهذا شكل من التطرف الديني الذي يتجاوز مؤسسات الدولة، للقصاص باليد اعتقادا أن ذلك من باب تغيير المنكر باليد، ويكون معززا بالآخرين الذين يكتفون بتغيير هذا المنكر بالقلب وذلك أضعف الإيمان. إن القيم الثقافية الموروثة تمارس قسرا على الفرد ولا يستطيع التخلص منها إلا بالتعلم والمعرفة، وبالتنشئة المعقلنة والمتزنة، وباحترام مؤسسات المجتمع التي عليها القيام بوظائفها كاملة.أعتقد أن فهم وتفسير السلوك الاندفاعي الجماعي لتقويم سلوك لا يتماشى مع قيم الجماعة، يتطلب دراسات ميدانية لقياس شكل الاتجاهات الاجتماعية حتى يمكننا الوقوف على المتغيرات التي تؤدي إلى مثل هذه السلوكات المستفزة من جهة، ومن جهة أخرى كيف تنتج عن ذلك ردود أفعال عنيفة ؟ هل ذلك ناتج عن بنية اجتماعية تقليدية لا تستوعب التحولات؟ وهل المؤسسات الاجتماعية نفسها كالأسرة والشارع والمدرسة ما تزال تذكي مثل هذه الأفكار في عقول الأفراد؟ وكيف ينبغي علاج كل سلوك خارج عن قيم المجتمع تفاديا لقانون "شرع اليد". في سطور > أستاذ وباحث في مجال السوسيولوجيا.> حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة، ودبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع تخصص النظريات الاجتماعية.> حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، من جامعة محمد الخامس بالرباط. > أستاذ مشارك في شعبة علم الاجتماع بكل من كليتي الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعتي محمد الخامس بالرباط، وابن طفيل بالقنيطرة. > له مساهمات متعددة في مجال السوسيولوجيا: - كتاب "الظاهرة القائدية، القائد العيادي الرحماني".عن دار بابل للطباعة والنشر، الرباط ،سنة 2000.- دراسات ومقالات في مجلات متخصصة، ومساهمات في الجرائد الوطنية.

“شرع اليد” تطرف ديني

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هيبة الدولة في مهب "اللجان الشعبية"

تطورات ملف تزوير شهادات دراسية

مقالات ذات صلة