مجالـس “بيجيـدي”… ديمقراطيـة التحكـم

مسارات التحالفات المشروطة التي نهجها العدالة والتنمية في تشكيل مجالس مقاطعات البيضاء في مسح لمجالس مقاطعة الدار البيضاء، تبدو الكثير من المفارقات التي تحاكم حزب العدالة والتنمية، القائد الحالي للأغلبية للحكومية. فمنطق الأغلبية يحضر في تحالفات الحزب حينا ويغيب حينا آخر. وفي تجربة التسيير الجماعي لمقاطعات الدار البيضاء الست عشرة، تظهر ملامح «التحكم الديمقراطي»، الذي نهجه حزب العدالة والتنمية، على الصعيد المحلي، في إقصاء واستبعاد باقي المنافسين، بمبرر أن الديمقراطية العددية حسمت نتائج الانتخابات الجماعية لصالحه، فقرر منتخبوه في العاصمة الاقتصادية قطع الطريق أمام باقي الأحزاب، والحكم منفردين. "بيجيدي"... ينتصر على نمط الاقتراع أفرزت نتائج الانتخابات الجماعية الأخيرة، اكتساحا كبيرا للوائح حزب العدالة والتنمية بعدد من الدوائر الانتخابية على امتداد مقاطعات الدار البيضاء الست عشرة. وباستثناء مقاطعة ابن مسيك التي سقط فيها مرشحوه ودعمهم لمرشح الأحرار في ثلاثة مقاطعات، حاز مرشحو «بيجيدي» على أغلبية مقاعد مجالس المقاطعات بعدد من الدوائر، ما مكنهم من العبور سريعا نحو رئاسة مجلس الدار البيضاء في تحالف ضم الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار وحزب التقدم والاشتراكية. توزيع تمثيلية الأحزاب الممثلة في مجلس المدينة، بعد احتساب مقاعد مجالس المقاطعات، أعطى لحزب العدالة والتنمية أغلبية بـ74 مقعدا متبوعا بحزب التجمع الوطني للأحرار (23 مقعدا) يليه الاتحاد الدستوري (20 مقعدا) ثم حزب الأصالة والمعاصرة (15 مقعدا) وحزب الاستقلال (8 مقاعد) والتقدم والاشتراكية (3 مقاعد) فيما تقاسم حزبا الحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أربعة مقاعد أخيرة.بتوظيف هذه الأرقام يظهر كيف أن حزب العدالة والتنمية استطاع أن ينتصر على نمط الاقتراع في هذه الانتخابات، وأن يربك حسابات كل أولئك الذين راهنوا على نظام الاقتراع من أجل وقف زحف «بيجيدي». فالنظام يبدو من تفاصيله أنه صمم لئلا يفوز أي حزب بأغلبية مطلقة في تسيير مجالس المدن والجماعات، غير أن الذي وقع أن نتائج التصويت قلبت الحسابات وعجلت بالتفكير في مدى جدوى «ظاهرة البلقنة» التي راهنت عليها الدولة وسيلة للتحكم في تحالفات تشكيل المجالس، وضبط الخريطة السياسية. فحزب العدالة والتنمية، بناء على نتائج انتخابات مجالس المقاطعات في الدار البيضاء، لم يكن بحاجة إلى حلفائه داخل الأغلبية الحكومية من أجل الظفر بعمودية العاصمة الاقتصادية، وإنما جاء إشراكه لأعضاء من التجمع الوطني للأحرار والتقدم والاشتراكية، فيما يشبه رد دين حكومي.حافظ العدالة والتنمية على المنهاج نفسه في التعاطي مع تشكيل مجالس المقاطعات، فنهج مرشحوه ديمقراطية تحكمية تقوم على إقصاء مرشحي باقي اللوائح الحزبية للمعارضة، من المشاركة في إدارة الشأن المحلي، رغم أن بعض هؤلاء المبعدين اليوم كانوا شركاء لمرشحي «بيجيدي» في تجارب التسيير الجماعي لعدد من مجالس مقاطعات الدار البيضاء منذ 2009، إلا أن الحزب الأغلبي فضل التخلص منهم تارة، أو وضع شروطا مسبقة لمشاركتهم تارة أخرى. ونسوق هنا نموذجا ما جرى في مقاطعة الحي المحمدي عشية انتخابات 2009، إذ شارك حزب العدالة والتنمية في التسيير الجماعي، رغم أن مرشح الاتحاد الدستوري فاز حينها بأغلبية عددية لتشكيل مكتب مجلس المقاطعة، إلا أنه وبعد فوز «بيجيدي» في الاستحقاقات الجماعية الأخيرة استبعد حليفه من الاتحاد الدستوري وقرر الاستفراد بالسلطة. "ديمقراطية التحكم"... البداية مجلس المدينة بالعودة إلى سياسة «ديمقراطية التحكم» التي نهجها حزب العدالة والتنمية، في التعاطي مع تشكيل مجلس مدينة الدار البيضاء، تنكشف بعض كواليس التحالف الذي تشكل عشية التصويت، فالحزب الأغلبي حافظ على منطق التحالف الحكومي في تشكيل الأغلبية داخل مجلس المدينة، إلا أن توزيع المهام بين أعضاء هذا المجلس يكشف أن القرار الحزبي كان له الأثر الكبير في توزيع المهام بين مكونات التحالف السياسي الذي ضم التقدم والاشتراكية والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية.البداية، بتوزيع التفويضات بالمهام داخل مجلس المدينة. فقد حاز التجمع الوطني للأحرار ثلاثة توقيعات تخص قطاعات النظافة والنقل وحفظ الصحة. وإذا كان قطاعا النظافة والنقل يداران من قبل شركات خاصة، فإن التفويض الوحيد الذي بقي للائحة الأحرار يتعلق بحفظ الصحة فقط. ما يعني عمليا أنهما «تفويض بدون توقيع».بالمقابل لم يتخل عمدة مجلس مدينة الدار البيضاء، عبد العزيز العماري عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، عن أي تفويض لممثل حزب التقدم والاشتراكية، رغم أن الأخير يشغل عضوية مكتب المجلس. بالمقابل، بقي مرشح الحركة الشعبية (الطرف الثالث في التحالف المحلي) خارج تركيبة المكتب المسير. المفارقة هنا تكمن في أن حزب العدالة والتنمية قرر من يكون إلى جانبه في التسيير الجماعي، ومن يبقى خارج سلطة التسيير. ورغم أن حزبي التقدم والاشتراكية «بيجيدي» يشاركان في التحالف الحكومي، فإن مشاركة طرف دون آخر في مكتب المجلس يبدو أنه خضع لمواقف حزبية وليس لمنطق التحالفات السياسية، فالتقارب بين التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية أكثر ودا من نظيره بين الأخير والحركة والشعبية. الأغلبية تلتف على حقوق المعارضة في توزيع اللجان داخل مجلس المدينة، وقع التفاف على اللجنة المخصصة، بقوة القانون، لأحزاب المعارضة داخل المجلس. فقد صوتت الأغلبية العددية لحزب العدالة والتنمية لمرشح حزب الاستقلال (نصر الله الحسين) وضمنت له رئاسة لجنة التعمير بالمجلس. وبالعودة إلى مرشح الاستقلال يتضح أنه يشغل عضوية نائب لرئيس مقاطعة الفدا، المنتمي إلى حزب «بيجيدي»، ما يعني أن الأخير انتزع اللجنة المخصصة لأحزاب المعارضة بالتفاف على القانون يؤكد صحة فرضية «ديمقراطية التحكم» التي سلكها الحزب.باقي التفويضات اختص بها منتخبي حزب بنكيران، وشملت البنيات التحتية واللوجيستيك والرخص التجارية والقطاعات الاجتماعية والثقافية والرياضية بالمدينة وغيرها من المجالات التي ترتبط بخدمات القرب. بموجب المادة 77 من القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات، تناط بالجماعة داخل دائرتها الترابية مهام خدمات القرب للمواطنات والمواطنين في إطار الاختصاصات المسندة إليها بموجب القانون التنظيمي للجماعات الترابية. و»لهذه الغاية تمارس الجماعة اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة، واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة. تشمل الاختصاصات الذاتية الاختصاصات الموكولة إليها في مجال معين، بما يمكنها القيام به في حدود مواردها وداخل دائرتها الترابية، بالأعمال الخاصة بهذا المجال، ولا سيما التخطيط والبرمجة والإنجاز والتدبير والصيانة». الاستفراد بالسلطة بناء على النتائج النهائية ترأس منتخبو «بيجيدي» 12 مجلس مقاطعة من أصل 16 مقاطعة بالدار البيضاء بعد أن تنازلوا عن مقاطعات عين السبع ومرس السلطان وآنفا لمرشحي التجمع الوطني للأحرار، بينما آلت رئاسة مقاطعة بن امسيك للاتحاد الدستوري بعد حيازته لأغلبية عددية كافية.في مقاطعة سيدي عثمان، ظفر مرشح العدالة والتنمية برئاسة مجلس المقاطعة، بعد أن تخلى الرئيس الحالي (محمد معيط) عن حليفه السابق مرشح الأحرار (محمد حدادي). الأول كان قد وصف حليفه حدادي، خلال الولاية الجماعية 2009-2015 بـ»الأب الروحي» وصرح بها أمام حشد من التجمعيين في مهرجان نظمته اتحادية التجمع الوطني للأحرار بمسرح مولاي رشيد بالدار البيضاء. وفي مقاطعة الصخور السوداء، مهد الاتحاد الدستوري الطريق أمام مرشح العدالة والتنمية للظفر برئاسة مجلس المقاطعة. تفاصيل هذه القضية تعود إلى تجربة الولاية السابقة حينها أشرك الاتحاد الدستوري منتخبي «بيجيدي» رغم أن لائحته حازت مقعدين فقط في انتخابات 2009. بعد إعلان نتائج الاستحقاقات الجديدة (2015) تنكر العدالة والتنمية لتحالفها مع الاتحاد الدستوري واشترط تسمية امرأة واحدة من هذا الحزب لقبول مشاركته في تشكيلة المجلس.في مرس السلطان، اختلف الأمر قليلا حين دعم «بيجيدي» مرشح التجمع الوطني للأحرار للفوز برئاسة مجلس المقاطعة، وقد زكت القرابة التي تجمع رئيس المقاطعة مع الأمين العام عبد الإله بنكيران، حظوظ مرشح الأحرار للظفر بالرئاسة نظير استحواذ العدالة والتنمية على أربع نيابات داخل تشكيلة مكتب المقاطعة. وقد تكرر هذا السيناريو في مقاطعتي عين السبع وآنفا وفق الاتفاق نفسه بشأن طريقة توزيع المسؤوليات داخل المكتب.بمقاطعة الحي الحسني استفرد منتخبو العدالة والتنمية بتسيير الشأن المحلي، ومنعوا باقي ممثلي الأحزاب التي فاز مرشحوها ضمن هذه الدائرة من المشاركة في التسيير. القصة نفسها تكررت بمقاطعة سيدي بليوط حيث استفرد «بيجيدي» بالتسيير رغم أن الرئيس السابق لمجلس المقاطعة، مرشح الاتحاد الاشتراكي (كمال ديساوي) كان حليفا لهم في الولاية السابقة ومكنهم من مسؤوليات مهمة داخل المجلس مقابل دعمهم له. تكرر سيناريو الاحتكار العددي لتشكيلة المجلس في مقاطعة سيدي البرنوصي، حيث يستفرد الحزب الأغلبي بالتسيير منفردا، علما أن الرئيس السابق (مرشح الاتحاد الدستوري محمد الداهي)، تحالف مع منتخبيه في الولاية السابقة بتمثيلية عضوين داخل مكتب المجلس، وهو المشهد نفسه الذي عاشته مقاطعة سيدي مومن حيث تنكر «بيجيدي» لحليفه السابق من حزب الأصالة والمعاصرة. وفي الحي المحمدي أزاح «بيجيدي» مرشح حزب الاتحاد الدستوري من تشكيلة المكتب المسير، علما أن الاتحاد شاركه في التسيير الجماعي خلال الولاية السابقة، علما أن المرشح الدستوري فاز بأغلبية مريحة تعفيه من إشراك مرشحي العدالة والتنمية حينها. في مقاطعة الفداء كان الأمر مختلفا مرة أخرى، فقد فاز «بيجيدي» برئاسة المجلس وحاز مرشح حزب الاستقلال عضوية مكتب المقاطعة مدعوما من الرئيس، وهو ما يمكن اعتباره استثناء وقع على صعيد تحالفات الحزب بمدينة الدار البيضاء. تحالف الاستقلال و»بيجيدي» فتح الطريق أمام مرشح حزب شباط لرئاسة لجنة المعارضة (لجنة التعمير) بمجلس المدينة، ما يعني عمليا أن الأغلبية العددية انتزعت اللجنة من أحزاب المعارضة ومنحتها لـ»معارض حليف». حزب الأحرار بدوره نال نيابة واحدة بمقاطعة عين الشق، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في مقاطعتي المعاريف وسيدي عثمان وغيرها من المقاطعات التي يشارك فيها الأحرار بصفته حليفا لـ»بيجيدي».لا شك أن حزب رئيس الحكومة، حقق انتصارا سياسيا وانتخابيا في الاستحقاقات الجماعية الأخيرة، وبالدار البيضاء يمكن القول إن قوائم الحزب انتصرت على نمط الاقتراع نفسه، فحاز مرشحو «بيجيدي» أغلبيات عددية مريحة جعلت مرشحيه في غنى عن عقد تحالفات لتشكيل مجالس المقاطعات، سواء من داخل المعارضة أو من أحزاب الأغلبية الحكومية نفسها. غير أن الأسلوب الذي نهجه الحزب في تدبير تحالفاته والاشتراطات التي وضعها أمام حلفائه في الحكومة الحالية تثير الكثير من التوجس حول مستقبل الديمقراطية المحلية وتفسيراتها الاختزالية لدى منتخبي العدالة والتنمية. سيناريوهات وتحالفات على المقاس سيناريو «ديمقراطية التحكم» التي تسيدت هيكلة مكتب مجلس مدينة الدار البيضاء، سيتكرر مرة أخرى على صعيد مجالس المقاطعات الست عشرة. فقد اعتمد منتخبو العدالة والتنمية إستراتيجية ثنائية محكمة في تشكيل مكاتب مجالس الوحدات الترابية (المقاطعات) بالمدينة وقوامها كما يلي: - في الحالة الأولى: يتنازل مرشحو «بيجيدي» عن الرئاسة لمرشح من التجمع الوطني للأحرار مقابل حصولهم على أربعة نواب بالتتابع، بينما يحتفظ مرشح الأحرار برئاسة مجلس المقاطعة ونيابة خامسة. - وفي الحالة الثانية: حين يتحالف مرشح العدالة والتنمية مع لائحة التجمع الوطني للأحرار لتشكيل الأغلبية العددية لصالح مرشح «بيجيدي» يكون نصيب مرشح الأحرار نيابة واحدة فقط. وهكذا، فبعملية حسابية تتضح لعبة «التحكم»، فحين يُكمل مرشح الأحرار الأغلبية لفريق «بيجيدي» يستفيد من نيابة واحد فقط، وحين يكمل مرشحو حزب بنكيران الأغلبية لمرشح الأحرار يكون المقابل أربع نيابة كاملة. بالمقابل، اشترط حزب العدالة والتنمية على بعض الأحزاب الأسماء التي يرغب في أن تشارك في تشكيلة مكتب مجلس المقاطعة، وهذا ما حدث مع لائحة الاتحاد الدستوري بمقاطعة الصخور السوداء، بينما استفرد مرشحو الحزب بالتسيير في مقاطعة الحي الحسني مثلا. فيما عدا ذلك استعصت مقاطعة ابن مسيك على قائمة «بيجيدي» وحاز وكيل لائحة الاتحاد الدستوري، محمد جودار، رئاسة المقاطعة بأغلبية المقاعد.بالاستناد إلى حالة مجلس مقاطعة الحي الحسني، وبالرجوع إلى القوانين المنظمة نجد أن المشرع الدستوري انتبه إلى مخاطر «الاحتكار» العددي لتدبير الشأن المحلي، فاستبق هذا النموذج من التسيير الجماعي بإقرار مقتضى بموجب الفصل 139 من الدستور لتمكين المواطنين من حق التقدم بالعرائض وفقا لشروط محددة. وهو ما ترجمته المادة 121 من القانون التنظيمي للجماعات، بالتنصيص على أنه «يمكن للمواطنين والمواطنين والجمعيات أن يتقدموا وفق الشروط المحددة بعرائض يكون الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في صلاحياته ضمن جدول أعماله». واشترط القانون أن يستوفي مقدمو العريضة شروطا منها «أن يكونوا من سكان الجماعة المعنية أو يمارسوا بها نشاطا اقتصاديا أو تجاريا أو مهنيا. وأن تتوفر فيهم شروط التسجيل في اللوائح الانتخابية ولهم مصلحة مشتركة في تقديم العريضة..». بالنسبة إلى نظام المقاطعات فإن عدد توقيعات المواطنين والمواطنات على العريضة لا يجب أن يقل عن 400 توقيع، فالمشرع بموجب هذا النص يكون قد تعاطي مع حالات التفرد بالقرار في إدارة الشأن المحلي لقطع الطريق أمام ديكتاتورية الأغلبية. إنجاز: إحسان الحافظي

مجالـس “بيجيـدي”… ديمقراطيـة التحكـم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الجواهري: أبعدوا الدين عن البنوك التشاركية

آلام المفاصـل... محنـة الشتـاء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات