الحكاية تذكرنا بخطوات السنين وحدها الشعيرات البيضاء التي التمعت في ذقنه غير الحليق، كانت كافية لتذكره بما يحاول أن يطمره في هوة النسيان. طقس التحديق الصباحي في تقاسيم الوجه على المرآة، لم يعد يستهويه، مذ رمقت عيناه، قبل سنوات قليلة، أولى الشعيرات البيضاء تظهر على الذقن. ضحك "عبد المجيد. ر" للأمر ساخرا في البداية، وحاول مداراته بنتف الشعرة بدل حلقها، عله يستأصلها من جذورها، حتى لا تعاود الظهور لتذكره بحقيقة طالما دفع بنفسه للسهو عنها، وهي أنه بدأ يتخطى مرحلة الشباب."الشعرة الملعونة" تعاود الظهور من جديد، لكن ليس وحدها، بل صارت في كل مرة تظهر إلا وتجلب معها أخواتها لينتشرن على الذقن، بشكل عشوائي مستفز، لم يعد يثير ضحك صاحبنا، بل يضعه في دوامة مختلطة من المشاعر يجتمع فيها القلق والخوف بالحسرة والندم."لم تعد تفصلني عن سن الخمسين سوى أسابيع قليلة"، هكذا همس عبد المجيد لنفسه، قبل أن يردف "كيف مضت كل هذه السنوات ولم أنتبه للأمر، كثيرا ما كنت أتجاهل يوم عيد ميلادي حتى لا يذكرني بوقع وعدد الخطوات الحثيثة التي تسيرها حياتي نحو المجهول، والانحدار نحو الفناء والزوال".استبد حزن غامض بعبد المجيد لم يترك له فرصة البحث عن الجوانب المشرقة في حياته، كأن ذاكرته أصيبت بتلف جزئي وموضعي، ولم تعد تسعفه في استدعاء لحظات السعادة العابرة التي عاشها وتقاسمها مع المحيطين به.لا يتذكر صاحبنا شيئا سوى أن السنوات غافلته وغدرته، ولم تترك له فرصة عيشها بالطول والعرض، وأنه قضى أزهى فترات عمره مدفونا في العمل والبحث عن جمع المال بأي طريقة، دون أن يخطط لطرق صرف هذا المال وإيجاد الوقت الكافي للاستمتاع به.حرم عبد المجيد نفسه من متع كثيرة، رغم أنه لم يكن يعوزه المال، لا لشيء سوى أنه كان يعتبر أن لا شيء يستحق أن يضيع المرء الوقت من أجله إن لم يكن مدرا للدخل. كان يضع لعلاقاته مع الناس معيارا نفعيا، مرتبطا بما يمكن أن يربح منهم، وكان يبرمج حركاته وسكناته على هذا الأساس.والآن وقد صحا عبد المجيد من غفوته، وتذكر أن لنفسه وبدنه عليه حقا، تكدر مزاجه، بعد أن أدرك أن نصف عمره مضى دون أن يستمتع به كما يجب، حتى الأسرة لم يجد الوقت لتكوينها، لينعم بالدفء داخلها، فتعوضه عن اللحظات الطويلة التي اختار أن يسجن نفسه فيها داخل الشغل، فوجد أنه قد شارف على الخمسين دون أن يجد الحب إلى قلبه طريقا، إلا لحظات استمتاع عجلة بأجساد عابرة، لم تكن تعني له شيئا أكثر من هذا.أشرقت في نفس عبد المجيد على حين غرة، وهو غارق في تأملاته السوداوية، رغبة ملحة في استدراك ما فاته، وهو يقنع نفسه، بأن الفرصة ما زالت سانحة أمامه لذلك، فهو في منتصف الطريق، ولاشيء ذهب سدى، ما دام قد ادخر لنفسه ما يمكن أن يجعله يعيش حياة جديرة بأن تسمى كذلك، فلا الصحة راحت ولا الناس راحوا، كل شيء ما زال رهن اليد، وفي متناول القلب والنفس.عزيز المجدوب