مولنبيك… بلجيكستان

الجهاديون هم القدوة الوحيدة لشباب المقاطعة التابعة لبروكسيل مرة أخرى، يأتي المحققون وعناصر شرطة مكافحة الإرهاب إلى دائرة مولنبيك، غير بعيد عن مركز بروكسيل، حيث يوجد مقر إدارة قوات الحلف الأطلسي ومبنى برلمان الاتحاد الأوربي. فوسط سكان مسلمين يائسين وعاطلين، ترعرع الأخوان عبد السلام، وعبد الرحمان أباعود، العقل المدبر لتفجيرات باريس، ولا يمكن إحصاء مجموع الجهاديين الذين مروا من هنا. امحمد خيي (عن جون أفريك بتصرف) تحت المطر الأسود، صارت كوكبة من عناصر مكافحة الإرهاب، مشهدا يوميا، تقريبا، بين سكان يرتدون أغطية رأس إسلامية، وشباب بقبعات مقلوبة، ورجال بسترات فيها واقيات للرأس.هذه المرة، زنقة "ديلانوف"، حيث توجد منازل مملوكة بشكل مشترك بين النهر ومسجد "الخليل" الكبير والمعروف بتشدده، هي التي تومض منها أضواء الإنذار فوق الدوريات كمنارة بحرية، ويوجد حاجز للشرطة أمام كل تقاطع فيها من أجل التفتيش.الصحافة والكاميرات وعواكس الضوء، "اذهبوا إلى حال سبيلكم، لا وجود لإرهابيين هنا، يا أبناء القــــ...."، يصيح مراهق ثم يفر بسرعة. وكبار السن من الأوائل الذين رحلوا من الريف المغربي في سنوات الستينات، من أجل حفر أنفاق القطار، والممرات النفقية للطرق السريعة في بروكسيل، صاروا محبوبين أكثر من غيرهم. "الشر هو الشر، في باريس أو في مكان آخر، ولكن من أين يأتون؟" يتساءل ستيني متكئا على عكازه مضيفا "لقد كانت بلجيكا مضيافة، والآن صارت مثل فرنسا، وكالأمريكيين. ما الذي ذهبتم للقيام به في سوريا؟ إن داعش صناعتكم، على غرار سابقتها: القاعدة".في قلب أوربا، مذبحة مسرح باتاكلان، تثير الاعتذار والإدانة، والذين هم من الفئة المسلمة، بلا شك، صادقون في تخوفهم من المستقبل، ويقسمون بأن لا شيء خطر على بالهم أو توقعوه."كلنا متألمون ومعنيون، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين"، يقول آلان ديكش، البرلماني الليبرالي، والرئيس سباقا لمنظمة أطباء بلا حدود، والذي صار ينتقد بشدة موجات من الهجرة إلى البلاد، لا تتعرض للمراقبة وغير متحكم فيها. مخبأ الإرهابيينلقد أفلت الإنزال الأمني في زنقة "ديلانوف" موعده مع الهدف: صلاح عبد السلام، المشتبه فيه رقم 1، مازال في حالة فرار، وشقيقه إبراهيم عبد السلام، فجر حزامه الناسف في مطعم بالدائرة 11 في باريس، ليلة الجمعة الماضي.إن الأخوين يوجدان في قلب مؤامرة ضد النظام، فإبراهيم الانتحاري، يعد من المقربين من عبد الحميد أباعود، متحدر آخر من مولنبيك، وهو أحد قادة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، ويفترض أنه العقل المدبر للمذبحة في باريس. وفي بلجيكا الأسماء الثلاثة، تفوح رائحتها في ملفات جرائم الحق العام، لدى الأمن والقضاء منذ سنوات.ثمانية أيام تحديدا، قبل أن يرتمي إبراهيم عبد السلام على مطعم "فولتير" منفجرا، نجا من قبضة الشرطة، ليس باعتباره إرهابيا، إنما باعتباره مالكا لحانة في زنقة "دي بيكوين" في مولنبيك، تعرف أنها وكر لمدمني المخدرات والكحول. "كنا نلتقي به يوميا، ولكن ليس في المساجد"، يقول جار له يفضل عدم ذكر اسمه، أما أحمد الخنوس، المستشار المنتخب في الجماعة، فيصر على أن البلدية عندما "قررت إغلاق حانته، لا شيء سمح لنا بتوقع انتمائه إلى شبكة إجرامية.في مولنبيك، دائرة بروكسيل الموجودة بين المركز التاريخي وحزام سكني خاص بالأثرياء، لم يكن هذا أول موعد مع الجهاديين يتم إفلاته من قبل الأمن مع أتباع الإرهاب. والبعض يرجعون بداية الظاهرة إلى التسعينات، حينما كان يذهب المرتزقة للقتال إلى جانب مسلمي البوسنة، وتفجيرات 1995 للجماعة الجزائرية الإسلامية المسلحة في مترو الأنفاق بباريس. منذ ذلك الحين والشبكات السرية ترسو بالمدينة ومعها الأسلحة.في 2001، كان يقطن هنا، قتلة المقاوم الأفغاني الرائد أحمد شاه مسعود، يومين قبل تفجيرات 11 شتنبر، وفي 2004 وجدت آثار حسن الحسكي، المخطط الرئيسي لتفجيرات مدريد (191 قتيلا). "لا يتحدرون كلهم من هنا، إنما أغلبيتهم عابرو سبيل"، يؤكد فرانسوا شيبمان، حاكم بروكسيل، لكن قبل هجمات باريس، تزايدت الوتيرة: مدحي النموش، المتهم في تفجير المتحف اليهودي ببروكسيل في ماي 2014 (4 قتلى)، وخلية مؤامرة "فيرفيير" التي تم تفكيكها في مواجهة بإطلاق النار مع الشرطة البلجيكية في يناير الماضي (قتيلان)، وللختم: أيوب الخزاني، مطلق النار في قطار "طاليس" الرابط بين باريس وبروكسيل. الإنذار من باريس والرباط "من المؤكد أن الشرطة البلجيكية، استفاقت بعد تفجيرات برجي التجارة العالمية في نيويورك"، يسجل خبير متخصص في الاستعلامات، "ولكن ظلت لفترة طويلة مقيدة بسبب قوانين ثقيلة: لا مراقبة ولا توقيف ولا تنصت هاتفي دون إذن قضائي، كما لا تتوفر على السلاح الفعال الموجود في دول أخرى: تهمة الانتماء إلى جماعة منظمة".إن جرس الإنذار، يأتي أحيانا من باريس، وأخرى، من الرباط، حيث توجد ملكية قلقة من انحرافات مهاجريها بأوربا الشمالية، وحينها فقط تسارع الشرطة والعدالة لتدارك تأخرهما."150 هو عدد الملفات المرتبطة بقضايا الإرهاب، المفتوحة من أجل التحقيق ببلجيكا، وهذا نجاح مثير للإعجاب، لكن توجد 17 نقطة سوداء نشيطة لشحن الفكر المتطرف"، تقول وثيقة أمنية سرية.والقضية الأكثر إثارة، كانت هي ملف الجماعة السلفية المنظمة "شريعة فور بلجيوم"، وكانت تعمل على تجنيد المقاتلين للحرب الدائرة في سوريا، من داخل فرنسا وبلجيكا، وبين 46 مشتبها فيه، تم توقيف ثمانية، فيما الآخرون التحقوا بـ"داعش" واعتبروا في عداد الأموات بساحة الحرب. وفي يوليوز الماضي، تمت إدانة خالد الزرقاني، مجند آخر لفائدة "داعش"، بـ12 سنة سجنا. القدوة المفقودة "إنهم أقلية صغيرة جدا"، يطمئن كلود مونكي، محلل متخصص في شؤون الإرهاب وإطار سابق بالمديرية العامة للأمن الخارجي، غير أن "الأجواء في مولنبيك، هي ما يشجع على قدوم الوجوه الكاريزمية للجهاد، كما كان الحال في لندن قبل 15 عاما".ويضيف المتحدث منبها: "كل من بإمكانهم تغيير الوضع: المحامون والصحافيون ومالكو المقاولات الصغرى والمتوسطة غادروا مولنبيك، ما جعل الشباب لا يجدون أي قدوة نموذجية أمام أعينهم، فصار المجال مفتوحا لكل من أراد تصفية حسابات ويعرف تحويل الإحساس بالتهميش إلى حقد وكراهية، وفي النهاية، إن الأمر ثورة مضادة ضد الغرب".يعرف جمال حبابيش، أتباع السلفية جيدا، وهو مدير مسجد "التضامن" الذي يعد واحدا من بين 16 مسجدا قانونيا في مولنبيك، ويقول مواسيا أسرة مشوشة على ابنها المتمرد: "يستحسن القيام بمراقبة في أيام الجمعة، تزامنا مع الصلاة الكبرى، فيومها تظهر طوائف لا يمكن تصورها، ولا يمكن الترخيص لها"."في كثير من الأحيان، بمولنبيك، يختفي ابن دون أن يترك أثرا، ولا يعود أبدا من سوريا والعراق، والأسر والأصدقاء هم الذين يعانون، "إن مجندي المقاتلين لفائدة داعش، أقوى منا، إنهم يلعبون على المشاعر، وأشرطتهم تؤثر في عقول مازالت لينة وتحتاج إلى التوجيه"، ومنذ ثلاثة أشهر ذهبت مراهقة واعدة وطموحة في كابوس دون عودة. الأحزاب متهمة إن رجل الدين، جمال حبابيش، يوجه الاتهام إلى السياسيين، المحليين والوطنيين، الذين تركوها أرضا خصبة يتوافد عليها منذ 1980 الوعاظ القادمون من السعودية، وتركوا القنصليات توزع التأشيرات في دول الخليج والمكتبات تروج أشرطة تنشر إسلاما يحض على الكراهية، وصولا إلى تقديم المتشددين، مرشحين في الانتخابات"."لقد قمنا بدق جرس الإنذار"ـ يصر جمال حبابيش، "واستمع إلينا كبار الأحزاب ومرشحوها، لكنهم لم يفعلوا شيئا، وكان همهم الصمت جريا وراء إرضاء ما يرونه خزانات انتخابية مسلمة"، وعلى الطرف الآخر، يشتكي آلان ديكستي، البرلماني، من هجرة غير مراقبة إلى عاصمة الاتحاد الأوربي، "حيث كل 6 ضمن 10 من السكان ولدوا في الخارج، وبروكسيل ستصير كلها مسلمة قريبا"، إذ يلاحظ أن "الكنائس فارغة والمساجد ممتلئة".وفيما كان يشتكي رجال الدين من عمى السياسيين، وكان هؤلاء يعولون على "اندماج تلقائي بمرور الزمن" لمكونات خزان لأصوات انتخابية، تدفع بلجيكا اليوم، ثمن امتصاص الأجانب بالوتيرة ذاتها التي يجري فيها الأمر بكندا وأستراليا وألمانيا.إلى حدود السنوات الأخيرة، فتحت بلجيكا كل الأبواب: وثائق الإقامة التي تمنح الحق في التعويضات الاجتماعية، وموجات من حملات تسوية الوضعية القانونية، والترخيص للتجمعات العائلية، والحصول التلقائي على الجنسية بعد ثلاث سنوات من الإقامة (أكثر من 500 ألف في 10 سنوات). "كل ذلك يعني شيئا واحدا: وراء الانفجار الديمغرافي لبلجيكا، تختفي موجة هجرة لم يسبق لها مثيل" يقول البرلماني.مولنبيك صارت هي ذروة الخلل البلجيكي: تمركز للمسلمين أكثر من أي مكان آخر ومعرضون للتطرف، وأيضا تفتت للسلطة السياسية، يعرقل العمل ويعطي الصلاحيات إلى كل المستويات. السلطة المركزية لها تدبير الهجرة والعدالة، وللمجموعات الثلاث: الفلامانية والفرنسية والألمانية تدبير التربية والثقافة، وللجهات تدبير الشؤون الدينية، أما الجماعات فتقوم بالتنفيذ الملموس محليا.في مولنبيك، تضاعف عدد السكان، في عشر سنوات الأخيرة، ليصل إلى 100 ألف نسمة العام الماضي، وتبلغ النسبة المتوسطة للبطالة 28 في المائة، وكل شابين دون 25 سنة، واحد منهما عاطل عن العمل. إن الدائرة تشكل قلب الفقر، ولا وجود لصناعة ومقرات شركات، والمتبقية تستعد للرحيل، وتبرر الأمر بتزايد التحرش بمستخدماتها النساء، وكل نهج سيرة مهنية يشير إلى مولنبيك، تبقى حظوظه في الحصول على فرصة عمل ضئيلة جدا.

مولنبيك… بلجيكستان

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحبس لوسيطة استدرجت قاصرات لخليجيين

600 شخص يحصلون على اللجوء بالمغرب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات