دار الضريبـة بالبيضـاء…لعبـة الكراسـي

أكثر إدارات العاصمة الاقتصادية ازدحاما عوضت الطابور المنظم بتذاكر مرقمة بـ״التنقاز״ تتهيأ المديرية الإقليمية للضرائب للأشخاص الطبيعيين بعمالة مقاطعات الحي المحمدي عين السبع لموجة أخرى من الاكتظاظ والازدحام المقيت،مع اقتراب انتهاء المهلة الجديدة (الثانية والأخيرة) التي منحتها وزارة التجهيز والنقل واللوجستيك لتمكين المواطنين من تجديد رخص السياقة والبطائق الرمادية المحررة على الحامل الورقي واستبدالها ببطائق الكترونية. أغلب موظفي ومسؤولي المديرية الأشهر بالبيضاء، والمتاخمة للبوابة الخلفية لمحكمة الاستئناف، يؤمنون أن الموجة ستكون عالية هذه المرة، لذلك شرعوا، منذ أيام، في الإعداد لمواجهتها، بما يفرضه ذلك من أعصاب وضعت في درجة حرارة تحت الصفر. "الصباح" تقدم مشهدين التقطتهما في أوقات متفرقة لدار الضريبة، واحد لحظة الازدحام القصوى في شتنبر الماضي، والثاني، منتصف نونبر الجاري..لنقارن. السماسرة ومقتنصو الفرص ومحررو المطبوعات قرب المدخل الرئيسي لـ"دار الضريبة" أكثر من عدد الزبناء. أغلبهم "يعصر" سيجارة شقراء في زاوية من فمه، ويضع أوراق وأغلفة ملونة فوق ركبتيه، وينهمك في تحرير معلومات وحدهم يعرفون دقتها والخانات التي ينبغي أن توضع فيها، وإلا كان مصيرها التشطيب والإلغاء. "فيد باك" الساعة تشير إلى التاسعة صباحا. يدس حارس السيارات دريهمات تسلمها للتو من صاحب سيارة غادر رصيف الموقف القريب، ويقترب أكثر من حارس الأمن الخاص الذي يقف مثل شجرة سامقة أمام مدخل مديرية الضرائب، وهو يشير بيده إلى مرتفق جديد أن يلتزم بالطابور (الصف) بجانب الجدار، وانتظار دوره في الدخول. "لي سبق، يشد الصف، هذا هو النظام من سنين"، يقول الرجل الخمسيني لامرأة تقف وراء بدا من ملامحها أنها تزور المكان لأول مرة، كما تعطي الانطباع أنها لا ترغب في الانتظار دقيقة واحدة في طابور طويل ملعون. يقترب شاب أنيق بربطة عنق من رجل الأمن الضخم. يوشوش في أذنيه، ثم يفسح له المجال للدخول، أمام أعين المنتظرين الذين يبدؤون في الاحتجاج، وتعلو الأصوات من الخلف "وشد الصف أبنادم".. "واباركا من الفرزيات"، يقول ثان. ويقول صوت ثالث و"احنا كاع مغاربة ولات تسعة أشهر..واشويا ديال الاحترام الله يرحم الوالدين في هاد النهار"... يلتزم رجل الأمن الصمت، ويقول لأحدهم بصوت خافت "غير خليهم يغوتو..هاداك راه كان في الداخل من الصباح وخرج غير يدير فوطوكوبي للبيرمي ديالو. (هذه الجملة يكررها الحارس بشكل ميكانيكي كي لا يضع نفسه في مشروع ورطة). يزحف الطابور ببطء. يلتحق مرتفقون جدد ويبحثون عن أماكن صغيرة في الخلف مظللة تقيهم ألسنة شمس ملتهبة. تصعد الدماء إلى الرؤوس، رويدا، وترتفع الأصوات من جديد في الاحتجاج مطالبين بإحضار "المسؤول" على وجه السرعة لتفريغ حنقهم في وجهه. حارس الأمن مازال متصلبا أمام الباب، غير آبه بـ"ثورة الغضب" المتفجرة في الخلف. يبدو بطريقته الهادئة وغير المبالية، أن مهمته الأساسية، هي تقدير عدد الأشخاص المسموح لهم بالدخول، بعد مغادرة آخرين انتهوا من قضاء مآربهم الإدارية. تمر الدقائق طويلة، ويأتي الدور بعد ساعة تقريبا، ويفتح الباب الحديدي الصغير بحركة من رجل الأمن، قبل أن يغلق من جديد، ويقف أمامه مثل سارية. "منى" مغربية الباب والسياح الحديدي ضروريان، بالنسبة إلى مسؤولي الإدارة الإقليمية، لمنع الأشخاص من الوقوف من التجمهر مباشرة أمام المدخل الرئيسي وإغلاقه. لهذا السبب بالضبط، أوكلت لحراس أمن أشداء تنظيم طوابير في الخارج، لتسهيل عملية مرور الزبناء أمام الشبابيك الإدارية في ظروف جيدة. كي تصل إلى الفضاء المخصص للشبابيك، عليك أن تعبر ممرا صغيرا وسطه آلة معطلة للتذاكر المرقمة، وأمامها، مباشرة، مكتب القابض الإقليمي، وبجانبه باب صغير مخصص للموظفين يؤدي إلى مكاتب صغيرة يطلون منها على الزبناء. في هذا المكان بالضبط، تصبح "دار الضريبة" بالبيضاء مرادفا للجحيم، وينبت للازدحام وجه غول يكشر عن أنيابه في وجه الجميع. أكثر من 300 مواطن يتكومون فوق بعضهم في فضاء تقل مساحته عن 100 متر مربع، في الانتظار دور يضبط ايقاعه مواطن متطوع، لا يمل من تكرار طلبه "شويا ديال النظام الله يرحم الوالدين"، ثم يمر بين الحشود، يتوسلها باحترام الوقوف في طابور يصعب معرفة مقدمته من نهايته، من شدة التداخل والفوضى الضجيج وأصوات الاحتجاجات التي ترتفع بين الحين والآخر. بعض المرتفقين الذين فقدوا الأمل في قضاء أغراضهم في ساعات الصباح الأولى، عادوا إلى الوراء، وافترشوا قطعا من "الكارتون" وحصير بلاستيكي وأسندوا ظهورهم المتعبة إلى الجدار في انتظار الفرج. الموظفون والمسؤولون رفعوا الراية البيضاء، وتركوا مهمة التنظيم و"الصف" إلى المواطنين أنفسهم، الذين ابتكروا طريقة أشبه ما تكون بـ"لعبة الكراسي"، وتقضي أن يملأ المرتفق التالي كرسي المرتفق الذي يسبقه كلما اقترب الطابور من الشبابيك. لإتقان اللعبة، على المواطنين، وضمنهم عدد من المسنين والكهول من الجنسين، أن يكونوا على استعداد تام للوقوف من أجل مغادرة كراسيهم، ثم الجلوس مرة أخرى في الكراسي الفارغة بجانبهم، وقد تتكرر العملية عشرات المرات في ظرف ساعة تقريبا، قبل الوصول إلى كرسي "النجاة" القريب من الشباك، معلنة عن انتهاء لعبة "طفولية" يقابلها الزبناء بكثير من التذمر. "ماكينة" معطلة هذه الفوضى التي استمرت إلى الأسبوع الأول من أكتوبر، كان لا بد أن تتدخل الإدارة لـ"تنظيفها"، مستغلة تراجع حدة الازدحام، بعد نشر بلاغ تمديد مهلة تجديد رخص السياقة والبطائق الرمادية إلى نهاية السنة الــــجارية. من حسنات هذه المهلة، أنها مكنت الموظفين والمسؤولين من استعادة "المقود" الذي أضاعوه خلال الفترة السابقة، حتى كادت المديرية الإقليمية تتحول إلى ما يشبه محطة طرقات في عز عطلة عيد الأضحى. وأول إجراء، استيلام مهمة التنظيم من المواطنين المتطوعين، والبحث عن حراس أمن خواص لهم اطلاع كبير على طبيعة عمل الشبابيك والخدمات الإدارية المقدمة وطبيعة الوثائق الواجب التوفر عليها والرسوم المالية لكل خدمة. حارس الأمن ذو القامة القصيرة يقوم بعمله على أحسن وجه. يتحرك في المسافة بين المدخل الرئيسي وفضاء الشبابيك مثل فراشة، مستقبلا الوافدين الجدد، لمعرفة طبيعة الخدمة التي جاؤوا من أجلها، قبل الانطلاق من جديد إلى مقدمة الصفوف للاطمئنان على احترام الطابور. رغم العدد القليل من الزبائن في هذا الوقت من بداية المهلة، مازالت "لعبة الكراسي" صامدة، مع فارق أن يوجد اليوم من يسهر على تنظيمها: - "هاد هو الحل لتنظيم المواطنين وضمان حقهم في الطابور"، يفتح الحارس حديثا جانبيا مع مواطن، قبل أن يضيف "أنا عارف بللي بنادم غادي يطلع ليه الدم، لكن ما كاينش شي حل آخر حسن من هذا". يتدخل شاب بلحية مشذبة متذمرا "واش حنا غادي نبقاو نقزو فوق هاد الكراسا بحال القرودة...والله لاحشومة عليكم..هاد شي عار وعيب". احتجاج الشاب شجع آخرين على الاحتجاج، "اصاحبي كاين واحد الاختراع سميتو تيكيتات (التذاكر المرقمة)، كل واحد عارف نوبتو بالنمرة ديالو، بلا هاد الشوهة. يستمع الحارس بإمعان لكل الاحتجاجات، قبل أن يطبطب على كتف الشاب، قائلا "غير صبر أصاحبي كلشي غادي يدوز..لي جا الإدارة خاصو يصبر باش يقضي حاجتو". "لكن علاش ما تخدموش ليك الماكينة ديال التيكيتات، غادي تسهلو علينا عليكم الخدمة"، يسأل الشاب بنبرة التذمر نفسها. ثم يجيبه الحارس بالهدوء نفسه "عرفتي علاش اصاحبي.. حيت شي وحدين كانو كيستغلو هاد الماكينة (يشير إلى مكانها)، وكانو كيجبدو التيكيتات وكيخرجو يبيعهم للمواطنين بالفلوس". يصمت الشاب ويفرغ فمه، فيواصل الحارس منتشيا "وييه أصاحبي..المغاربة خايبين"، قال له ذلك، ثم طلب منه الانتقال إلى المعقد الموالي، في لعبة أضحى الجميع يقبل بقواعدها..مرغما". يوسف الساكت

دار الضريبـة بالبيضـاء…لعبـة الكراسـي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الشيخوخـة...سنـوات الضيـاع

مختصرات

مقالات ذات صلة