قبل تقديم أوراق اعتماده، أول "رئيس حكومة"، كان عبد الإله بنكيران، يدرك أنه سيلعب مع "الكبار"، و"الكبار أوي"، في متاهة الدوائر الضيقة لهندسة القرارات الكبرى وصناعتها وضبطها، وأشكال تنزيلها، بطريقة "برق ما تقشع".لم يطمئن بنكيران، يوما، إلى الاختصاصات "الجديدة" المخولة له، حصريا، بمنطوق الوثيقة الدستورية، وظل يعتبرها رمادا في عيون المواطنين، لذلك تنازل عن بعضها بمحض "إرادته"، مبديا تفاهما "غريبا" في التعاون في إطار التنسيق بين المؤسسات الدستورية، بل أعلن غير مرة أن الملك من يحكم في الواقع، ولا أحد غيره، ما جر عليه موجة من الانتقادات، ورماه آخرون بتهمة "الانقلاب" على دستور "الربيع العربي".لم يعبأ بنكيران بالانتقادات ولم يلتفت إلى الوراء. فالرجل يعرف، بدهائه الفطري، أنه محكوم بالتحرك في دوائر ضيقة جدا، في سياق سياسي ودستوري، مازال فيه الملك يسود ويحكم، في إطار ملكية تنفيذية ناعمة، لم تصل بعد إلى ملكية برلمانية، تحسم فيها قضايا الشعب في قبة البرلمان عبر ممثليه ومنتخبيه الحقيقيين.لكن في الوقت نفسه، لم يؤمن بحكمة الصمت، الذي رفعها وزراء أولون سابقون إلى مستوى التأليه، بل انحاز إلى جبهة المواجهة والحديث بصوت عال ليسمعه الجميع، مؤكدا، بمناسبة ودونها، أن "التماسيح والعفاريت" ما زالت تقض مضجعه، وتمنعه من إصدار قرارات للإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد، وهو الشعار/التعاقد الذي اكتسح به "بيجيدي" الانتخابات التشريعية 2011، وبوأته حزبا أول برئيس حكومة، وفق منطوق الدستور.وجد بنكيران نفسه، في كثير من الأحيان، أنه مكبل اليدين، أو أن جهات غير مرئية أخرى تطارد قراراته "الصغيرة" وإصلاحاته وإفراغها من مضمونها، كما وقع حين بدأ وزيره في النقل والتجهيز واللوجيسيتك في الكشف عن لوائح المستفيدين من المأذوينات ومقالع الرمال والجبص والغاسول والرخام دون وجه حق، أو العصي الكبيرة التي وضعت في عجلة وزيره الشاب في الإعلام، حين اقترب من عش الدبابير في القطاع السمعي والبصري، محاولا الدخول إليه، فعاد بخفي حنين.لا يضع بنكيران يده في ملف إلا ويجد من يضع يديه قبله، ولو تعلق الأمر بمجرد قرار لصرف منحة شهرية للنساء الأرامل وفي وضعية صعبة، أو تعميم التغطية الصحية على طلبة الجامعات العمومية، والزيادة في قيمة المنحة الشهرية، إذ وضعت، في وجهه، جميع العراقيل القانونية والمالية والمسطرية لتنزيل مبادرات اعتبرها غيره استقطابا غير مشروع لفئات جديدة لبيت حزب العدالة والتنمية.لم تتعب "التماسيح" من مطاردة بنكيران، كما لا يتعب في فضحها والتشهير بها كلما ضبطها تسبح في المياه الضحلة لحديقة باب السفراء (حيث يوجد مقر رئاسة الحكومة بالرباط)، وحين يغضب يذكرها بالاسم والصفة في مهرجاناته الخطابية، ثم يشكو "ألاعبيها" إلى جلالة الملك، الذي يبادله الابتسامة نفسها، ويعده "خيرا".لكل ذلك، لم تفاجئه تعديلات الساعات الأخيرة لبعض فقرات مشروع قانون مالية 2016 التي منحت حق التصرف في صندوق "ضخم" لعضو في حكومته، فاعتبرها مجرد حلقة في مسلسل "مكسيكي"، لن يغامر أحد بمعرفة نهايته.يوسف الساكت