الإعـلام… القلعـة الحصينـة

المساري والخلفي اصطدما بسلطة الدولة العميقة لم يكن قد مر على ميلاد حكومة "التناوب التوافقي"، في صيغتها الأولى، سوى بضعة أشهر، كانت كافية بالنسبة إلى الوزير الأول، آنذاك، عبد الرحمن اليوسفي، ليتبين الأعطاب التي تعتري سير الأداء الحكومي، وليقف على جزء من حقيقة الإدارة المغربية، والتكلس الذي دب في أوصالها بشكل جعلها لا تستجيب بشكل آلي لحقنات التغيير، أو الإصلاح كيفما كان شكله.حركية التدبير الحكومي كانت تتم بشكل بطيء، أولا لكثرة الأحزاب المشاركة في الحكومة واختلاف مرجعياتها ورهاناتها، كما تبين أن الوزارات على محدودية دورها في اتخاذ القرارات الحاسمة، كانت الكلمة الفصل فيها لكتّابها العامين، فضلا عن العلاقة مع وزراء السيادة والتدخلات الموازية في قطاعات حساسة من المفروض أن تكون تحت تصرف الحكومة.كل هذه المعطيات وغيرها كانت تنذر بانفجار وشيك كان يمكن أن يأتي على تجربة حكومية شكلت منعطفا حاسما في تاريخ المغرب، وأعطيت فيها تعهدات بين الأطراف المشكلة لها، على أن تسير الأمور في اتجاه تحقيق تغيير جذري ينقذ المغرب من "السكتة القلبية" التي تحدث عنها الحسن الثاني وعجلت بتحالفه مع المعارضة التاريخية من أجل تشكيل حكومة إنقاذ.كانت النقطة التي تفجرت بين يدي عبد الرحمن اليوسفي مسألة الإشراف على قطاع الإعلام والسمعي البصري، وكانت وزارة الاتصال، المشرفة على هذا القطاع، أسندت للراحل محمد العربي المساري، الذي كان أول وزير ضمن حكومة اليوسفي يعلن استسلامه لمراكز النفوذ، بعد توالي العديد من المواقف التي تعرض لها وظهر له أنه لا يتمتع بأدنى سلطة على القطاع الذي يشرف عليه، ليقدم استقالته من منصبه الوزاري لتتم الاستجابة لهذا المطلب في أول تعديل حكومي. ويكشف الإعلامي محمد الطائع جوانب من المضايقات التي تعرض لها المساري في كتابه «عبد الرحمن اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» حين يشير إلى أن وزير الداخلية السابق إدريس البصري الذي كانت له اليد الطولى على الإعلام «لم يكن راضيا على التنسيق بين المساري واليوسفي في إعادة هيكلة الإعلام العمومي». ويضيف الطائع أن «صراع النفوذ بين حكومة الظل وحكومة اليوسفي كان على أشده. إنه الصراع على السلطة. فبقدر ما كانت الحكومة تدفع في اتجاه اختراق أدغال الإعلام العمومي، بقدر ما كانت المقاومة شرسة وطاحنة. بعد تنصيب حكومة اليوسفي، رقى إدريس البصري المدير العام للإذاعة والتلفزة محمد طريشة من منصب عامل إلى وال. وكانت تعليمات البصري لمرؤوسيه واضحة «سدو عليهم كلشي».ويردف الطائع موردا بعض الوقائع التي كانت لها دلالاتها منها أنه «مع أولى جلسات الأسئلة الشفهية بمجلس النواب، ستنطلق وتبدأ الحرب المفتوحة بين سلطة حكومة اليوسفي والسلطة الفعلية. تقدمت فرق المعارضة بسؤال شفوي حول اختفاء بعض المواد الأساسية من الأسواق وارتفاع أسعار مواد أخرى، وكلفت الحكومة الوزير الاتحادي محمد بوزوبع بالإجابة على أسئلة المعارضة. وبتوجيهات مباشرة من إدريس البصري، منع محمد طريشة البث التلفزي والإذاعي لجواب الحكومة على أسئلة المعارضة.»ويضيف «أحس المساري بإهانة كبيرة وحرر رسالة رسمية موجهة إلى المدير العام للإذاعة والتلفزة محمد طريشة يأمره فيها بصفته الوزير الوصي على قطاع الاتصال والإعلام بوجوب بث جواب الحكومة، حتى تصل المعلومة إلى الجمهور والرأي العام. لم يتوصل وزير الاتصال بجواب مكتوب من «طريشة» ولا هو بثّ وأذاع جواب الحكومة ولا نفذ أوامر الوزير».كما كانت قضية إرسال التلفزيون لطاقم صحافي لتغطية وقفة المعطلين أمام مقر الوزارة الأولى دون علم وزير الاتصال، بمثابة مؤشر على تجنيد وزارة الداخلية لذراعها الإعلامي ضد وزارة أخرى معها في الحكومة نفسها، وهو ما لم يسكت عنه المساري وأقام الدنيا ولم يقعدها.جرت مياه كثيرة تحت الجسر وحملت معها أكثر من حكومة بعد واقعة اصطدام المساري بجيوب المقاومة داخل قلاع الإعلام، ليتجدد الصراع من جديد لاقتحام «القلعة الحصينة» عن طريق مصطفى الخلفي وزير الاتصال الحالي والناطق الرسمي باسم الحكومة، من خلال ما عرف بقضية دفاتر التحملات.ورغم أن التلفزيون المغربي سبق أن عمل بأكثر من صيغة لدفاتر التحملات في 2006 و2009، إلا أن المسألة لم تثر الجدل مثل الذي أثارته مع دفاتر الخلفي، التي رافقها لغط كبير استدعى تدخل رئيس الحكومة وتكليف نبيل بنعبد الله رئاسة اللجنة الحكومية التي انكبت على مراجعة مشروع دفاتر التحملات الخاصة بالإعلام السمعي البصري العمومي.عزيز المجدوب أعـــراف "المــخـــزن" يرى الباحث يحيى اليحياوي، في حديث مع «الصباح»، أنه «ليس صحيحا أن قطاع الإعلام، والإعلام السمعي/البصري تحديدا، عصي على الإصلاح. بالعكس، فبالإمكان إصلاحه وثمة العديد من المشاريع التي اشتغلت في هذا الأفق وأخرجت توصيات جدية من شأنها إفراز إعلام في المستوى، أعني في مستوى ما نراه ببلدان شبيهة وفي مستوى ما يرغب فيه المشاهد والمستمع».ويضيف الخبير في مجال الإعلام والاتصال، أن الإعلام (المرئي تحديدا) صيغ منذ البداية، في شكله ومضمونه وخلفياته، على أساس أن يكون جزءا من بنية وليس بنية قائمة الذات، أي جزءا من منظومة وليس منظومة قائمة الذات كما نلحظ ذلك بالعديد من التجارب هنا وهناك. وأستطيع أن أقول بخصوص هذه النقطة، إن معضلة الإعلام متأتية من أنه مرفق أنشئ للتعبير عما يسمى منذ مدة الدولة العميقة، أو المخزن في عرفنا. وبالتالي، فهو محكوم بهذا العرف، مسكون به لحد الهوس، غير قادر على الانفصال عنه. إنه ارتباط عضوي وبنيوي بين طرفي المعادلة.ولهذا السبب، يضيف اليحياوي، نرى أن كل تجارب الإصلاح من خارج هذا التصور فشلت، أو لم يتسن لها الترجمة على أرض الواقع، إذا لم يكن منذ ستينات القرن الماضي، فعلى الأقل منذ توصيات المناظرة الأولى وطموح حكومة التناوب في أن تقطع مع هذا التصور.ويردف اليحياوي «لو فهمنا هذا المعطى جيدا فسيبدو لنا من تحصيل حاصل أن ما قام به مصطفى الخلفي وما كان يعتزم القيام به سيلقى الاعتراض، لا بل والاستهجان. وقد رأينا كيف تم التعامل مع «دفاتره» وكيف تم الاستغناء عن رئيس ومدير عام الهاكا، بجريرة ما قاموا به عندما تبنوا هذه الدفاتر دون الانتباه إلى الخطوط الحمراء المضمرة في صلاحياتهم وحدود أدوارهم. إذن فإصلاح هذا المجال لن يتم إذا لم يتم الإيعاز به من لدن منظومة الدولة العميقة».

الإعـلام… القلعـة الحصينـة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لا أملك جوازا مغربيا

لجنة مؤقتة لسلة الوداد

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات