الخلايا النائمة للنقاد الجدد

تصدت للقطات مقتطعة من الفيلم واعتبرت مهاجمته مسألة حياة أو موت لم تنته حرب "الشوارع" السينمائية التي اندلعت بين زبناء مواقع التواصل الاجتماعي، مباشرة بعد "تسريب" مشاهد أولى من الفيلم الجديد للمخرج نبيل عيوش "الزين اللي فيك" على هامش مشاركته في مسابقة موازية لمهرجان "كان" الدولي للسينما.لم يضع "النقاد الجدد" أسلحتهم ولم يستسلموا أمام خصومهم المتخندقين خلف المتاريس المقابلة، رغم مرور أكثر من أسبوعين على ظهور أول مقطع مسرب تؤدي فيه ممثلات دور عاملات جنس، يرقصن في علبة ليلية أمام سياح عرب بلباس مشرقي. معجم "تحت السمطة"مازال الجميع يحافظ على القدرة و"الحماس" نفسه للإقناع والدفاع عن أفكاره" و"أطروحاته" و"اختياراته" وقناعاته ومنظومة أخلاقه ومرجعياته وأحكامه المسبقة واتهاماته الجاهزة. أما الذين فضلوا اللجوء إلى الأسلحة الفتاكة والضرب والقنابل المسيلة لـ"الفقصة"، فيعدون بالآلاف، والغريب أن كثير من هؤلاء يدافعون عن الأخلاق والقيم ومبادئ الإسلام باستعمال معجم يمتح من "تحت السمطة"، مقتدين بزعيمهم الروحي ذاك الذي حمل، يوما، كرسيا وهجم على مجموعة نشطاء أمام مقهى باليما بالرباط وهو يردد "هادي راها بلاد الإسلام يا أولاد القــ......".البلاغان اللذان أصدرتهما الحكومة، إلى حد الآن، حول منع الترخيص للفيلم من العرض، لم يزيدا الطين سوى بلة، ورسما الحدود بين معسكرين متناحرين، وشرعنا لفتنة حقيقية بين المغاربة الذين أكاد أجزم أنهم سيرفعون السيوف في وجوه بعضهم إن ترجلوا قليلا عن مواقعهم الافتراضية وخرجوا إلى الساحات العمومية، في وقت كان يمكن للسلطات العمومية أن تنأى بنفسها عن موضوع للخلاف والاختلاف، لا تحسمه البلاغات والتدخلات من "فوق"، أو من "تحت". خيوط الشبكة العنكبوتيةاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد من الممكن التعرف على هويات المتحدثين والمجيشين من خلف قنوات التواصل الاجتماعي ومن يحرك هذا الكم الهائل من التعاليق والتعاليق المضادة المتدفقة على مدى 24 ساعة دون انقطاع لتشكيل رأي عام مضاد لفيلم وصاحبه وأبطاله، بل هناك من حرض بصريح العبارة على القتل وسفك الدماء والذبح والإعدام، دون أن تتحرك النيابة العامة المختصة للتفتيش خلف خيوط الشبكة العنكبوتية لمعرفة هوية هؤلاء الأشخاص المستعدين للقتل لمجرد فيلم وما بالك بأشياء أخرى.الأمر أضحى مخيفا للجميع، ولم يعد الأمر مجرد نقاش عمل فني وسينمائي لم يعرض بعد، ولا يمكن لأحد اليوم، إلا القليل من شاهده، إعطاء رأيه فيه وصياغة موقف من اختيارات المخرج. وهذا العمل مثله مثل جميع الأعمال الفنية على امتداد تاريخ السينما، إذ لم يحصل أن حقق فيلما إجماعا عليه بالمـــطلق.في الطرف الآخر، فضل عدد من الفنانين والمثقفين والمبدعين والصحافيين والنشطاء في مختلف مجالات المجتمع المحسوبين على الصف الحداثي، الخروج إلى العلن بـ"وجوه مكشوفة"، للإعلان عن تشبثهم بحرية الفكر والتعبير والإبداع بوصفها حقوقا يكفلها الدستور المغربي وتسندها المواثيق الدولية.ودعا هؤلاء، في عريضة مفتوحة على التوقيعات، أهل الاختصاص وعموم المهتمين إلى الانحياز لصالح النقد البناء والارتقاء بالنقاش بعيدا عن أساليب التشهير والتحريض وإشاعة الكراهية، والتي تعتمد مبررات أخلاقية مزعومة، لا تقيم اعتبارا لحرية الفكر والإبداع ولا تتسامح معها في أي مجال من مجالات الإنتاج الفكري والجمالي. أصوات نشازفي زحمة "الكلام" والإسهال، ضاع القول الحقيقي عن السينما والفن والحرية والصورة والواقع والخيال والمحاكاة، كما ضاعت لغة النقد السينمائي التي تعتبر تخصصا علميا يدرس في الجامعات والمعاهد العليا ويمارس بقوة الشهادات والديبلومات والخبرة، قبل أن يتحول إلى "جحش" يركبه الجميع هذه الأيام وبالطريقة التي يريد.الناقدون السينمائيون، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ومرجعاتهم ومدارسهم كانوا أقلية وسط غابة من الأصوات النشاز، وكثير منها يصدر موقفا ورأيا في فيلم لم يكتمل بعد ولم ينشر، ولم يقل لنا مخرجه موقع هذه اللقطات والمشاهد الخمسة المسربة من الحبكة الدرامية، حتى نستطيع أن نحكم على "عهرها" وعريها" و"بذاءتها"، وتنافيها مع "الأخلاق العامة" وإساءتها إلى سمعة وصورة المغرب، كما حاول أن يسوغ وزير الاتصال، قرار المنع.من الأصوات العاقلة القليلة التي تحدثت في الموضوع، من موقع التخصص، الناقد والمخرج عبد الإله الجواهري الذي بدا حانقا وهو يتحدث في مقال نشرته مجلة "سينيفيليا"، عن "تجييش الشارع ودفع كل من هب ودب لإبداء الرأي ويصبح ناقدا، ناقد اللحظة المشبعة بالكليشيهات الممسوخة والآراء النقدية المتسرعة" قبل خروج الفيلم للعرض، بل تجاه مشاهد مقتطعة من سياقها العام ومنشورة للفت الانتباه للشريط الجديد ولترويج له، و خلق موجة من النقاشات قد تخدم الفيلم تجاريا مثلما تخدم اسم صاحبه.ورأى الجواهري أن الطريقة التي يروج للفيلم بها حاليا، "ستجعل سينمانا المغربية تؤدي الثمن الباهظ من حيث خلق جو من الاحتقان والكراهية تجاهها وبالتالي الدعوة لمزيد من الوصاية على الإبداع و الحجر على السينمائيين ورؤاهم الفنية المبنية على قناعات فكرية وثقافية شخصية"، ملاحظا أنه مباشرة بعد العرض الأول للفيلم بالدورة 67 لمهرجان كان، "بدأت أمطار الشر تهب ورياح الجنون تزمجر، مثلما بدأت التعليقات اللامسؤولة تصل عبر صفحات مشبوهة، "ملوثة بمفاهيم الاستعراض المجاني والتهافت النقدي ومحاولة اصطياد عدد اكبر من المصفقين والمهرولين لخنق الذات الإبداعية المغربية".يوسف الساكت الزاهي: الفن بحاجة لحرية شبه مطلقة أستاذ جامعي آخر، هو فريد الزاهي، الناقد المهتم بالجماليات البصرية، هاله حالة السيلان التي أعقب اللقطات الأولى من الفيلم، وقال في تصريح لوكالة المغرب العربي، "يلزم أن نعرف ما نريد. الفن الحق سينما كان، أو تشكيلا أو أدبا لا يمكن أن يكون مساومة، وإلا فإننا سننتج مراهم لجروحنا لن تلبث أن تتبخر لتظل جروحنا مشرعة في الهواء الطلق".يقول الزاهي، في تصريح لـ"لاماب"، إن "الفن بحاجة لحرية شبه مطلقة، وإلا فإننا سنعيد إنتاج وصفات كان يتحرر منها بشكل أو بآخر أكثر الفنانين التزاما بالستالينية" ملاحظا كيف "صرنا نخاف من الصورة أكثر من الأجيال السابقة التي ظلت متعطشة لسينما مزدهرة غير أنها لم تتح لها الفرصة لذلك. صرنا نخاف الجسد لأنه مرآة لعرينا ومشكلاتنا الاجتماعية. نبيح لجريدة أن تخصص ملفا للدعارة ولا نستسيغ من فيلم أن يتناول ذلك".وانتقد الزاهي في تصريح للوكالة النزوع نحو الحكم على موضوع الفيلم لا على طريقة تناوله محيلا الى التراث العربي الذي يجده حافلا بالتجارب الجريئة التي لم يحاكمها أحد من الجاحظ والمعري وغيرهما، ليتساءل "لماذا إذن هذا الخوف الفاجع من الصورة؟".وخلص الزاهي إلى القول إن "أخشى ما يمكن أن نخشاه هو أننا في الحد من حرية الفن خارج كل بعد جمالي، نخدم ظرفية صار فيها الإنسان وصيا على ربنا جميعا وخالقنا جميعا، وصار فيه الإنسان يخاف على نفسه من أن يحاكم أيضا يوما على ما يضمره في نفسه".

الخلايا النائمة للنقاد الجدد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ردود الفعل حول الفيلم مستعجلة

أيهما أخطر فيلم عيوش أم تهديد أبيضار بالقتل؟

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات