حين سألت "عصام" عن أهم أحلامه، قال دون تفكير "العثور على ماما" قلت: وماذا أيضا؟ قال: وبعدها، تجي الموت يلا بغات... أما يوسف، فحلمه أن يهاجر إلى إيطاليا، ويعود بالمال لينقذ والديه وإخوته من "تمارة" التي يعيشون فيها ويشتري لهم بيتا بحي مونفلوري كما فعل ابن جيرانهم مروان. بينما تمنى "علاء" أن يكبر ويصير قاضيا ليحاكم كل هؤلاء الذين يعتدون على الأطفال...في حين يحلم سفيان بأن يكبر ويشتغل ويتزوج ويكون له أولاد يشتغل من أجلهم، ليرى أبوه كيف يكون الآباء...أما "منار"، بائعة المناديل الورقية، فحلمها أن تكبر وتعمل عملا محترما، ليس فيه "ضسارة"، وتسكن شقة فيها كل متطلبات الحياة، لترتاح أمها من العمل في بيوت الآخرين. مشروع حياة لم يكتملالمشكل مع الأطفال في وضعية الشارع، حسب لطفي، هو أن لديهم مشاريع حياة حالمة، ودور "مركز أولادي" نفسي واجتماعي، يتمثل في جعلهم يحلمون بالمشاريع الممكنة، ومساعدتهم على تحقيقها... دورنا بلغة "زهور الهيشري"، هو "فورماطاج" هؤلاء الأطفال، أي هدم مشاريعهم الحالمة لتعذر تحقيقها في الواقع، وجعل مشروعهم ملموسا وقابلا للتحقق، بتمكينهم من تعلم مهنة".وللإشارة، فلدى "المركز" مشروع حياة حقيقي، حسب "لطفي" هدفه، استقطاب الأطفال من الشارع، والإنصات إليهم، ودعمهم وأسرهم نفسيا، والعمل من أجل إدماجهم داخل المركز، وتوفير التغذية والمبيت لهم، وإدماج غير المتمدرسين في أقسام التربية غير النظامية داخل المركز، والمنقطعين بالمؤسسات التعليمية العمومية، وتكوينهم، وتمكينهم من حرف تؤهلهم للاندماج مستقبلا في سوق الشغل مع مراعاة عامل السن والبنية الجسدية لكل واحد منهم.كما نسعى، يقول يونس الحنيش، مدير "مركز أولادي" "إلى محاربة الإدمان لدى الأطفال المدمنين على المخدرات، مع تنظيم أنشطة موازية لفائدة المستفيدين كالمسرح والأعمال اليدوية والرياضة والموسيقى، علاوة على تنظيم مخيمات صيفية".ومعلوم أن "مركز أولادي" يقع بحي "عين هارون" أحد أكبر الأحياء الشعبية بفاس، ويتوفر على طاقة استيعابية تقارب مائة مستفيد ضمنهم واحد وعشرون (21) مستفيدا يبيتون بمرقده، غير أن هذا العدد كثيرا ما يتم تجاوزه في فصل الشتاء، تجنبا لمخاطر البرد.المجتمع المدني يدعم مركز أولاديأشار لطفي إلى أن لـ"مركز أولادي" شراكات مع مندوبية الصحة والمركز الاستشفائي الجامعي والتعاون الوطني والمعهد الثقافي الفرنسي وبعض الشركاء الأجانب... كما أن له شركاء من المجتمع المدني يدعمون بعض أنشطته، خصوصا بعض المؤسسات التعليمية التي تقوم بحملات لجمع الملابس وتقدمها لأطفال المركز.وأكد هذا الناشط المدني على وجوب دعم الأسر لتواكب عمل المركز لضمان استمرارية الطفل في برنامج إدماجه حتى لا يعود من حيث أتى، مضيفا أن النشطاء يراهنون على استقطاب الوافدين الجدد على الشارع وأغلبهم أبناء مهاجرين أو راسبون في الامتحانات أو متخاصمون أو خائفون من عقاب أسري... وأكد أن الطفل بهروبه إلى الشارع يسعى إلى ممارسة حرياته البسيطة بأكل ما يريد مثلا، متى يريد، وحيث يريد، ومع من يريد. صعوبات التأطيرأكد جُدار أن القطاع الجمعوي العامل في مجال الطفولة، ورغم إسهامه الوازن في التصدي لهذه الظاهرة، يواجه عدة صعوبات، خاصة على مستوى الموارد المادية والبشرية المؤهلة الضرورية والدائمة".وتساءل رئيس لجنة تدبير "مركز أولادي" عما إذا كان المغرب عاجزا عن تغذية أبنائه، وسبب هذا التساؤل هو ما سماه "شروع الدولة في الاستقالة من مسؤولياتها اتجاه الملفات التي لها علاقة بالشأن الاجتماعي. سيما، يضيف، أن كثيرا من المسؤولين أصبحوا يدعون المجتمع المدني، صراحة، إلى البحث عن ممولين أجانب، على أن دور الأجانب، حسبه، هو المساعدة على حل هذه المعضلة وليس التكفل بها. واستدل على ما يقول بـ"تراجع حجم المنح التي كان المركز يحصل عليها من شركائه المغاربة في الجماعات المحلية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وباقي المصالح الخارجية المعنية بملف الأطفال في وضعية صعبة، وأكد أن نسبة الانخفاض ناهزت 70 في المائة سنويا!!! وهو انخفاض أثر كثيرا على استقرار النشطاء والمستخدمين العاملين في القطاع وعلى أدائهم ومردوديتهم، وعلى تأطير المركز للأطفال، إذ أصبح أغلب المستخدمين لا يتقاضون رواتبهم في وقتها، بل توقف المركز، حسبه، أكثر من مرة، عن أداء أجور مستخدميه، لانعدام الإمكانيات، مضيفا أنه لولا المنح الملكية التي يحصلون عليها، بمناسبة زيارات الملك محمد السادس لفاس، ولولا دعم المجتمع المدني، لما تمكن المركز من الاستمرار في عمله، ومن تخفيض العجز الذي أصبح يعاني منه في السنوات الأخيرة.وأضاف جُدار أن المركز، ومنذ سنة 2010، لم يتوصل من إدارة الجمارك بأي دعم، بسبب طول المساطر وتعقدها. وأضاف أن العاملين بالقطاع يضحون ويواصلون النضال في انتظار حد أدنى لضمان كرامتهم والمؤسسات العاملين فيها. لا حماية للنشطاءلفت لطفي الانتباه إلى أن النشطاء العاملين من أجل إعادة إدماج هؤلاء الأطفال لا يتمتعون بأي حماية قانونية، وأنهم، حينما ينجحون في استقطاب بعض الأطفال من الشارع، يأتي من يحرضهم ويغريهم بالعودة إليه، بل يتعرضون أحيانا للتهديد والهجوم والعنف من قبل الأطفال أنفسهم أو وزملائهم أو مستغليهم أو أسرهم لأنهم مصدر دخل بالنسبة إليهم. قنبلة موقوتة الخطير، حسب "لطفي"، هو أن أغلب المسؤولين الجماعيين المحليين والجهويين يحسسون الفاعلين المدنيين بأنهم مجرد متسولين. والسبب، حسبه، هو أنهم لا يدركون خطورة القنبلة الموقوتة المسماة أطفالا في وضعية الشارع، وأن ما تخسره الدولة، حاضرا ومستقبلا، في بناء السجون ومحاربة الإدمان والجريمة والأمراض أكبر بكثير مما يمكن أن تربحه لو استثمرت في مواجهة الظاهرة قبل أن تتسرطن، بدعم برامج التأطير والإدماج...ودعا "لطفي" الجهات المسؤولة والجماعات المحلية إلى تحمل مسؤولياتها، ودعم المركز – عن طريق شراكات - ليواصل تأطيره للأطفال وتتبعهم وإعادة إدماجهم، سيما وقد أصبحت له تجربة وإشعاع يستقطبان هيآت وطنية ودولية للاستفادة من خبرته وأطره، كما دعا إلى إخراج قانون الأسرة الكفيلة. مقاربة شمولية حسب حميد الخزري، فالتعاطي مع الظاهرة يعني قطاعات مختلفة، ويفرض مقاربة شمولية تشارك فيها كل القطاعات الحكومية والمنتخبين والمجتمع المدني.وأضاف في لقاء مع "الصباح" أن منسقيته باشرت العمل مع مختلف الفرقاء، وأنها تقوم بدعم ومساندة الجمعيات العاملة في هذا المجال، من خلال منحة سنوية تقدم للمراكز التي تعنى بشؤون الأطفال، وهي تساعد، حسبه، على توفير التأطير والإيواء والتغذية. كما أن هذه المنح، وإن كانت انخفضت قيمتها سابقا، ستتضاعف قريبا، بعد أن تغيرت شبكة منحها، وأصبحت تراعي نوعية المستفيدين وحاجياتهم، والخدمات المقدمة لهم، وأعطت الأولوية لأربع فئات هي المعاقين والمسنين والأطفال والنساء في وضعية صعبة.وأضاف حميد الخزري أنه من أجل ضمان استمرارية هذه المراكز، تقوم المنسقية بعملية التتبع والمواكبة، طبقا لمقتضيات القانون، من خلال التقارير الشهرية والدورية للجمعيات والمراكز.وأفاد مسؤول التعاون الوطني أن بفاس ثلاثة مراكز تديرها جمعيات، وهذه المراكز هي: مركز أهلي ومركز أولادي ومركز الكرامة، ويستفيد منها مجتمعة زهاء ثلاثمائة وخمسين طفلا كلهم ذكور، تضمن الإيواء لحوالي خمسين منهم، وتشتغل هذه المراكز على التتبع التربوي والاجتماعي والصحي والتكوين المهني ومحو الأمية والتربية غير النظامية للمستفيدين. وأضاف المنسق الجهوي أن الجمعيات المدبرة لهذه المراكز تشتغل حاليا مع الأطفال في وضعية صعبة للحيلولة دون تحولهم إلى أطفال شوارع.وأكد الخزري أن وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية أعدت بروتوكولا للتعامل مع الظاهرة يرتكز على النزول إلى الشارع عند الأطفال وكسب ثقتهم واستقطابهم ومحاولة إعادة إدماجهم، عبر توفير مركز للخدمات النهارية، الهدف منه توفير فضاء يقدم خدمات يحبها هؤلاء الأطفال (النظافة، الرياضة، التلفاز، الترفيه...) ويدخلونه شريطة التخلي التدريجي عن المخدرات، وأن من شأن هذا البرتوكول أن يحدث نقلة نوعية في هذا المجال، شريطة تعاون باقي المؤسسات المعنية خصوصا منها الصحة والتعليم والعدل والمنتخبين والمجتمع المدني والأسرة... قصة تنسيك أخرى في الشارع كما في "مركز أولادي" صادفنا حالات اجتماعية هشة، قصة الواحد منهما تنسيك قصة زميله. هي قصص تكشف البون الشاسع بين حقوق الطفل، كما هي مسطرة على الورق، وحقوقه كما هي في المعيش، إذ يظهر بجلاء حرمانهم من حقوقهم وجاجياتهم الأساسية بما فيها حقهم في الهوية والعائلة والحماية والغذاء والسكن والخدمات الصحية والتعليم والتربية والترفيه... ومن هذه القصص قصة: "عصام": (من باب فتوح) على جبينه جرح غائر. يقول إن صديقه هو من تسبب فيه، خلال شجار بينهما. وجدته متكئا على سيارة قبالة محطة القطار. في يده كيس بلاستيكي يشم محتواه من اللصاق. احتجت لبعض الوقت ليطمئن إلي. عمره، حسب قوله، اثنتى عشرة سنة. وإن كان شكله يقول إنه أكبر.طلبت منه أن ألتقط له صورة مع السيارة التي يتكئ عليها. قَبِلَ شريطة أن أستخرج له نسخة ورقية منها ليُطْلع أصدقاءه عليها. التقطتُها. عاد ليتحسر، لأنني لن أجده حين آتيه بالصورة. سيغادر ليلا. سألته عن وجهته. قال إنه مضطر للسفر إلى مدينة الناظور ومنها إلى إسبانيا... أمه "حرقت" قبل سنتين. كانت تجني التوت. وعدته بالعودة لاصطحابه. ماتت جدته. لم تعد أمه. توقفت عن مهاتفته... قرر أن "يحرق" ليبحث عنها. قد تكون محتاجة إليه، يقول. خالد طفل دون الثامنة من عمره. اشترت منه صديقتي علبة مناديل ورقية. سألَتْهُ عن محل سكناه. هنا، أجابها، وهو يشير إلى خرابة وسط المدينة.ولم لا تسكن مع أسرتك؟ أضافت.أجاب: هل تقبلين أن تسكني مع والد يوقظك باكرا، ويطلب منك أن تخرجي لتتدبري مصروف البيت، بينما يخرج هو إلى المقهى، ينتظر عودتك لتسلميه ما كسبته دون أن يسألك عن مصدره...؟!فضلت أن أستقل بنفسي، (يقول) لأفعل ذلك لحسابي، بعيدا عنه وعن سيطرته. أيوب (11 سنة) مجهول الأب، غير مسجل في الحالة المدنية، لم يسبق له أن تمدرس. حين كان صغيرا، كانت أمه تغلق عليه الباب، وتخرج للعمل. ولا تعود إلا مساء. وحين كبر، تعذر عليها الاستمرار في إغلاق الباب عليه، فخرج إلى الشارع، وكانت بداية المسلسل بالتعاطي للمخدرات... احساين، (15 سنة) طفل في وضعية الشارع، في حالة عود. يتيم الأب. أمه متسولة. دخل المركز سنة 2011. أدمج في التكوين والمدرسة. لم يستمر. ليس لديه مواكبة أسرية. سعيد (14 سنة) تخلى أبوه عن أسرته. احترف وأمه وإخوانه الأربعة التسول. لم يسبق له أن تمدرس. أدمج أكثر من مرة. لكنه يهرب من المدرسة ويعود إلى الشارع. عائلته، التي من المفروض أن تواكبه، هي نفسها في الشارع! الطفل ح. (14 سنة) استقطبه فريق المركز من محطة القطار. اكتشفوا أنه بشوارع فاس منذ أزيد من ثلاثة أشهر. سبق أن تمدرس، مستواه الرابعة ابتدائي. مشكلة هذا الطفل أنه يعشق فريق الرجاء البيضاوي لكرة القدم، ويرحل حيثما رحل. يحضر المباراة. يعود الفريق وجمهوره إلى البيضاء، ويبقى هو تائها في شوارع المدينة التي احتضنت المباراة، حتى يحين موعد المباراة الموالية، فيرحل إلى المدينة التي ستحتضنها.وحسب مدير المركز، فأسرة هذا الطفل تعودت على غيابه، ولم تعد تهتم لذلك، أو تسأل عنه...> محمد: (14 سنة، من قرية ضواحي فاس) مستواه الخامسة ابتدائي. غادر البيت قبل بضعة أيام. السبب هو أن أباه يمنعه من التأخر ليلا. سبق أن غادر البيت الأسري عدة مرات طلبا للحرية.> شوقي (16 سنة من ضواحي القنيطرة) مجهول الأب. تربى في الخيرية الإسلامية بالغرب. غير مسجل في الحالة المدنية. فر من الخيرية طلبا للحرية. جدته عجوز لم تعد تستطيع مواكبته. هام على وجهه... بصهريج كناوة، بفاس، يعيش أربعة أبناء (بنتان وابنان) مع أبيهم، بعدما توفيت أمهم. جميعهم يعيشون في محل عمل الأب، الذي يشتغل مصلح دراجات، ويدمن على تعاطي الخمر والمخدرات. مشكل هؤلاء الأطفال هو أن عليهم أن يغادروا المنزل− المحل، منذ الصباح الباكر، لإفساح المجال أمام والدهم للاشتغال. وفي انتظار العودة إلى البيت، يبقى الشارع ملاذهم...