المكي ناشيد: التربية الإسلامية والإصلاح المفترى عليه

اعتمادا من جهة أولى؛ على مضمون البيان التوضيحي لوزارة التربية الوطنية الصادر في 11 يناير 2017 الذي يتمسك بالقول "أللا تعارض بين الفلسفة الراشدة والإيمان الحق" نقلا عن المذكرة رقم 101/16 بتاريخ 21 نونبر 2016. ومن جهة ثانية؛ على ما جاء في بلاغ رئيس الحكومة السيد بنكيران بتاريخ 19/1/2017 الذي عبر فيه عن رأيه الخاص في موضوع الصراع بين أساتذة التربية الإسلامية والفلسفة، يمكن أن أستشف بكامل الوضوح كيف اتفق كل من رئيس الحكومة السيد بنكيران من جهة، ومدير البرامج المدرسية في وزارة التربية الوطنية السيد شفيقي، من جهة ثانية، في استنكارهما معا للمسار الذي اتخذه النقاش حول موضوع التربية الإسلامية والموقف من الفلسفة، معتبرين في اصطفافهما إلى جانب التربية الإسلامية، أن هذا المستوى من النقاش لا يراعي المجهود الإيجابي المبذول في إصلاح مقررات المادة الدينية، لأنه نقاش انصب حول موضوع واحد فقط، مع أنه محط نقاش، ولا يوجد إلا ضمن فقرات محدودة لكتاب واحد، ووحيد (منار في التربية الإسلامية)، من بين 29 كتابا جديدا مقررا في مادة التربية الإسلامية. وهذه الفقرات من النقاش التي نعتمدها، هي نفسها يمكن أن تسمح لنا باستنتاج آخر مفاده أن هؤلاء المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم مسؤولين على رأس المجلس الأعلى للتعليم، قد اختزلوا موضوع النقاش كما لو أنه مجرد خلاف احتدم بين فئتين من رجال التعليم؛ أساتذة مادة التربية الإسلامية في مواجهة أساتذة مادة الفلسفة، وهو ما شكل نوعا من التحريف لجوهر المشكل أزاح النقاش عن موضوعه الأصلي الذي كان يرمي إلى إصلاح منهاج مادة التربية الإسلامية بتنقية مقرراتها الدراسية من مختلف الشوائب العالقة بها، والتي لا تساير متطلبات الركب الحضاري العالمي المعاصر. وبالتأكيد، فنحن حين نتوجه إلى أي إصلاح يهم المنهاج التربوي/التعليمي، ينبغي بالضرورة ألا نعزل المادة موضوع الإصلاح عن البنية العامة للمنظومة التعليمية ككل تجنبا للوقوع تحت طائلة التفكيك المخلخل لبنية المنهاج التربوي العام، والمشتت للمواد المقررة لتصبح كما لو أنها مجرد جزر معزولة عن بعضها البعض، لا رابط يجمع بين عناصرها، ولا تكامل أو تفاعل بين مكوناتها. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن الكتب والمقررات الدراسية لمادة التربية الإسلامية التي صدرت على ضوء إصلاح 2016/2017، لم تحمل من معالم الإصلاح المأمول أي جديد يستحق الإشادة والتنويه، وإنما، على العكس من ذلك، جاءت تعبيرا صريحا عن بقاء المنهاج الديني المعدل وفيا لنفس الخط الفكري والتوجه الإيديولوجي السابقين، وإن اكتسى إخراجه حلة جديدة لا تتعدى المظهر السطحي الخارجي دون أن تلامس المضامين والمحتويات المكونة للمقررات، والتي هي جوهر المشكل المطروح للإصلاح، وأمام هذا الوضع الإشكالي المعقد، وعملا على التنبيه إلى مثل هذه الاختلالات التي تعرقل التغيير وتعيق الإصلاح، فقد كان من الضروري التوجه إلى الكشف عن العناصر أو العوامل المعيقة لأي تجديد أو تغيير، ومن ثمة الوقوف على ما يدحض منها مزاعم الإصلاح هذا المفترى عليه، وذلك توخيا منا لتحقيق قدر من الموضوعية، والتجاوب مع متطلبات الأمانة العلمية. وهكذا فإن وجهة النظر التي نود من خلالها التأكيد على أن المقررات الجديدة لمادة التربية الإسلامية لم تحقق ما التزمت به من إصلاح على الرغم مما واكب عملية إنجازه من لغط وضجيج بُحًت خلالها أصوات وأسالت مجرياتها مدادا كثيرا. فهذه الوجهة من النظر لا تتعلق بطبيعة الأحاديث النبوية والسور القرآنية المنتقاة، وإنما تتجه إلى البحث عن دوافع ومرامي الاختيارات الدينية المتحكمة في القوالب المعدة لتنميط شخصيات الأجيال من المتعلمين انطلاقا من نموذج معين من التنشئة الاجتماعية التي تستجيب لشروط الإيديولوجية الدينية المهيمنة. وتأكيدا لما أود الوصول إليه، أشير إلى أني قد صعقت بالفعل من شدة الاستغراب،حينما فتحت كتابا مدرسيا (مرشدي في التربية الإسلامية طبعة 2016) للمستوى الثاني ابتدائي على الصفحة 34 صدفة ودون سابق اختيار، فوقفت على النص التالي بعد أن شد انتباهي، ولأهمية الموضوع، اضطر لعرض النص كاملا مرفقا بتوابعه في التالي؛ النص؛ "رأى سعيد سربَ نمل طويل فسأل أباه؛ كيف يحصل النمل على طعامه وشرابه يا أبي؟ ابتسم الأب وقال: الله تعالى خالق كل شيء ورازق كل مخلوق. ونحن من يرزقنا؟ قال الأب: يرزقنا الغني الذي رزق النمل يا سعيد...فسبحان من هدانا إلى الخير، ورزقنا من نعمه وفضله."[1] وذيل النص بالسؤالين؛ كيف يحصل النمل على طعامه وشرابه؟ ومن يرزق باقي المخلوقات؟ وعلى ضوئهما معا، تمت صياغة الاستنتاج التالي؛ الله رب العالمين خالقي ورازقي وهو الذي يطعمني ويسقيني. ويجدر التذكير بأن المعضلة في هذا العمل (التربوي) تكمن في أنه تم بإشراف من لجنة تتألف من أربعة مفتشين للتعليم الثانوي التأهيلي، اثنان منهما يحملان دكتوراه، ربما في نفس التخصص، ومع ذلك تنفلت من بين أيديهم، بشكل يبعث على الارتياب، انزلاقات تربوية ومفارقات معرفية لا تليق بما لديهم، كلجنة مشرفة، من مؤهلات مهنية ومعرفية وأكاديمية. ومن بين كل ذلك، سنتوقف على ما يؤدي إلى الإخلال في مثل هذا العمل، بالدور التربوي الموكول للدرس الديني القيام به داخل المدرسة المغربية. مبدئيا، هناك مفارقة بادية للعيان، وهي قائمة بين سؤال الطفل وجواب الأب، ذلك أن سعيدا استعمل الأداة؛ كيف؟ ضمن سؤال محدد الهدف، وهو معرفة طبيعة عمل النمل، فالأداة؛ كيف؟، تحيل إلى الاستفهام عن المعرفة بعمل أداة، أو وسيلة، أو بكيفية القيام بمجهود، أو بإمكانية عمل،... إلا أن جواب الأب جاء بصيغة مخالفة وبعيدة عن المطلوب من السؤال، كما لو أنه يريد أن يجيب عن سؤال آخر غير مطروح من طرف الطفل، لكنه يوجد بالفعل في ذهن الأب كخلفية محركة لما يريد أن يوحي به للطفل سعيد لإعادة صياغة السؤال باستعمال الأداة ، من؟، حيث يجد الأب ضالته للاستطراد، حسب وجهة نظره، في الجواب عن السؤال ، ونحن من يرزقنا؟. ومن الواضح أن سؤال سعيد طُرح بناء على ملاحظة طبيعية وحسية أثارت فضوله المعرفي حينما رأى، بأم عينيه، سربا من النمل يعمل بجد ونشاط، وهو يريد من وراء السؤال أن يعرف طبيعة عمل النمل في الحصول على قوته من أكل وشرب، وليس شيئا آخر أبعد من حدود مدركاته الحسية(بحسب سنه). لكن جواب الأب كان مخالفا ليس لصيغة السؤال فحسب، وإنما مخالفا أيضا لما يحمله موضوع النمل في الذهنيات والثقافات السائدة، من صور رمزية تحيل على مختلف مفاهيم قيم الجد، والصبر، والكد والمثابرة في العمل، وهو ما من شأنه أن يلعب دورا تربويا يسهم في ترسيخ، لدى الناشئة، فكرة أن العمل هو أساس النجاح في الحياة. وهكذا فمن شأن مثل ذلك الاستنتاج الذي وقفنا عليه، أن يؤدي تثبيته وتزكيته في العمل التربوي بالمدرسة المغربية إلى إشاعة قيم التواكل والكسل لدى أجيال الغد بعد أن يستحيلوا إلى أشخاص متواكلين على الغيب، منتظرين لما تجود به السماء عليهم. وبعد ذلك فلا يتبقى أي معنى للحديث عن الإرادة الفردية، ولا أي مدعاة للحديث عن الحُلم بتحقيق طموحات مستقبلية تشكل حافزا للأفراد من أجل العمل والبحث والابتكار.(نموذج؛ الصرار والنملة في مقررات سابقة). ومن جانب آخر، إذا شئنا أن نربط الموضوع بالخلفية الدينية، فسوف نجد بالقرآن الكريم ما يحفز المسلمين على العمل، "وقل اعملوا ..."، مثل ما نجد ما يحذرهم من الافتراء على الله مصداقا لقوله تعالى؛"فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك، فأولئك هم الظالمون" (سورة آل عمران، الآية، 94)، بل وعلى العكس من ذلك نجد بالقرآن الكريم ما يدعو المسلمين إلى ربط العمل بالنتائج، ومن ذلك أنه يربط العمل الصالح بالفوز بنعيم الجنة، والعمل السيئ يؤدي بصاحبه إلى سعير جهنم مصداقا لقوله تعالى؛"من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"(سورة الزلزلة؛ الآية، 7 و 8). إن من شأن هذا الشكل من الاختيارات المهيمنة في المنهاج التربوي، أن يدفع بالناشئة إلى غض الطرف عن قيم الجد والمثابرة والاجتهاد التي هي من أولى وأهم ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم من أجل النهوض، والتقدم والارتقاء في مختلف المجالات. على أنه، وبدلا عن ذلك، فإن من شأن هذا النمط من التكوين أن يدفع بالناشئة إلى السعي وراء قيم الريع، والإكراميات، والتواكل، باعتبار أن الأرزاق إلهية، وصدقات إحسانية ،وهبات ريعية، ومساعدات خيرية، وغنائم دعوية،... وهكذا، فإن هذا الذي وقفنا عليه مجرد غيض من فيض مما تطفح به صفحات المقررات الدراسية لمادة التربية الإسلامية من نقائص واختلالات، ويبقى علينا فقط أن نؤكد بأنه لا سبيل لتحقيق أي إصلاح في الشأن التعليمي والتربوي إلا إذا اقترن بالقطع مع الخلفيات السياسية الموجهة، والإيديولوجيات الدينية المتحكمة في الاختيارات الكبرى للمنظومة التربوية/التعليمية ككل. على أنه، وإلى حين يتحقق ذلك، فها هي جرائدنا الوطنية وتحت عناوين بارزة نسجل منها؛ ارتباك في وزارة حصاد يلغي مقررات جديدة (الصباح)(+). وفضائح الكتب المدرسية مستمرة؛ تغيير أغلفة كتب التربية الإسلامية دون المحتوى والمؤلفين ودور النشر(الأخبار)(++). وهي عناوين تخبرنا بما لا يدع أي مجال للشك، بأن أمر الإصلاح المزعوم لمادة التربية الإسلامية قد حسم، ودخل غرفة الإنعاش من جديد.

المكي ناشيد: التربية الإسلامية والإصلاح المفترى عليه

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ماكرون في زيارة جديدة للمغرب

برشلونة يتلقى دعوة للمشاركة في الدوري الروسي بعد استقلال كاتالونيا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات