شعراء الأنابيب يكتبون من أجل الكتابة

بوسريف يستعيد علاقة القرآن بالأساطير البابلية وجلال الدين الرومي حل الشاعر والكاتب المغربي صلاح بوسريف، أخيرا، بتركيا من أجل وضع اللمسات الأخيرة على مشروع أدبي عن الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي. عن ملامح هذا المشروع، وسر توظيفه الأساطير البابلية في ديوانه الأخير «رفات جلجامش» وأشياء أخرى، خص صاحب «فاكهة الليل» «الصباح» بالحوار التالي: أجرى الحوار: عزيز المجدوب > انتقلت أخيرا إلى تركيا من أجل التحضير لمشروع أدبي عن الشاعر والصوفي الفارسي جلال الدين الرومي، ما هي ملامح هذا المشروع، ولماذا اخترت الانتقال إلى أرض العثمانيين من أجل الاعتكاف عليه؟ > ثمَّة في الكتابة ما هو مُؤجّل دائماً، ومشروع هذا العمل الشِّعريّ، شَرَعَتُ في كتاباته الأولى في أوَّل عمل شعري، كتبتُه خلال الثمانينات. وصدر في بداية التسعينات من القرن الماضي، وهو «فاكهة الليل»، وأيضاً في ديواني الثاني»على إثر سمــاء . الشِّعْر له منطقه الخاصّ، وهو، في حقيقة الأمر، نص واحد نكتبُه خلال عمر كامِل، لكن هذا النص، يشبه النَّهْر الذي تتفرَّع جداوله، وتتغيَّر مساراتُها، وتتلوَّن بطبيعة ما نتعلَّمُه، وما نقرؤه، ومانعيشه ونراه. واشتغالي، في الحقيقة، على هذا العمل، ليس على جلال الدين الرومي، بل على المرحلة التاريخية التي حدث فيها انجراف كبير للثقافة والحضارة العربيتين، إثر الغزو المغولي، الذي مرَّ كاسحاً عبر طريق الحرير والتَّوابِل، وما خلَّفَه من دمار ودم، ما نزال عربياً نؤدي ثمنه إلي اليوم، والرومي ضمن هذا، هو رمز للمرحلة، ليس في البلاد العربية، بل في بلاد الروم، في هضبة الأناضول، وفي قونية، تحديداً، التي رأى سلاطينها أن الجزية والمُكوس، أفضل لهم من الوضع الذي آلَتْ إليه كثير من البلاد التي مرَّ عبرها المغول. لذلك فهو اختار أن يتكلَّم عن العشق، بدل أن يستغرقه الدم، وما كانت تعيشه البلاد من احتلال. فهو لم ينتقد، ولم يدن، لكنه اختار التعبير عن نفسه، وما يجري، عن طريق تكريس هذا المنحى الصوفي العرفاني، الذي هو منحًى وصله عبر شيوخه الذين كانوا سبباً في انقلابه من معلم واعظ، إلى عرفاني عاشق، ومن هؤلاء برهان التِّرمِدِيّ، وشمس الدين التبريزي، الذي عصف بحياة الرومي كاملة. > الملاحظ أن هناك اهتماما متزايدا بجلال الدين الرومي، خلال السنوات الأخيرة، عبر مختلف الأجناس الأدبية، في تقديركم ما هي أسباب هذا الاهتمام؟ > الأمريكيون اليوم، هم الأكثر قراءة واهتماماً بالرومي، إلى الدرجة التي جعلوا فيها أشعار الرومي تُغَنَّى، وتجد إقبالاً كبيرً عند الناس، وتُباع على شكل أقراص مدمجة، بكميات كبيرة، ما يعني أنَّ الرومي استطاع من خلال أعماله الأساسية المثنوي بأجزائه الستة، و«الديوان الكبير» و«الديوان العربي»، أن يقلب فكر البشر الحديث، وأين، في أمريكا. هل تعرف ما يعنيه هذا، أنَّ الحداثة في الشِّعر، وفي الفكر، ليست هي حداثة التقنية والاقتصاد، أو المجتمعات الاستهلاكية، بل إنها حداثة تُجَدِّد ماءها باستمرار، والرومي من هذا المنظور، هو اليوم حداثي أكثر من كثير من الحداثيين، في شعره، وفي فكره، وفي الطريقة التي كتب بها أعماله. > في ديوانك الأخير «رفات جلجامش...» اخترت الحفر في الأساطير البابلية والآشورية ما سر هذه العودة الشعرية إلى الأسطورة؟ > أنا لم أعد إلى الأسطورة، بل عدت إلى أصل وُجود البشر على الأرض، وإلى أصل الديانات والمعتقدات، والصراع الذي كان بين الآلهة والآلهة، وبين الآلهة والبشر، وما ترتَّب عن هذا من حاجةٍ إلى وجود وكينونةٍ كاملَيْن، وهو ما جسَّدَتْه صورة «جلجامش» الذي هو نصف إله ونصف بشر، فموت صديقه أنكيدو، جعله يكتشف هَوْل ما عليه الإنسان من وُجود وكينونة ناقِصَيْن. إذن، فالأسطورة هنا، هي واقع، وهي حقيقة، مُغلَّفَة بالرموز والدلالات، وهي طريقةٌ في تفْكِيرِ الوجودِ. والسؤال الذي يُطْرَح هنا، بإلحاح، هو لماذا اختار من كَتَب، أو من كَتَبُوا هذه الملحمة العظيمة، شِعْراً، وهي أقدم نص شعري وصلنا، وكذلك مدينة أوروك، فهي أول مدينة على الأرض، وهي سُرَّة العالم والعمران والوجود البشري. > هل تعتقد أن الخطاب الشعري ما يزال يحتفظ بمبررات حضوره في ظل انتعاش أجناس أدبية أخرى مثل الرواية، وفق ما أشرتَ أليه؟ > الشِّعر اليوم، يتخلَّق من جديد، والتَّخلُّق في طبيعته، يشبه البدايات. فهو هدم، ومحو، وإفراغ. ومن يقرأ الشّعر اليوم، وهو مُمْتَلئ عن الآخِر، لا يمكنه أن يفهم ما يقال، بتعبير أبي تمام. مثلا، هذا شاعر كان يهدم وهو يبني، لذلك لم يتلقاه الناس وفق ما تلقَّوْا به تلميذه البحتري الذي كان نموذجاً لـ «عمود الشِّعر». أبوتمام خرج على هذا العمود، والقـارئ دائما يذهب إلى ما هو مألوف، وكل جديد بالنسبة له مَسٌّ بأعرافه، وهو لا يستطيع مغادرة هذه الأعراف. هذا هو وضع الشِّعر اليوم، وكما قلتُ لك، قبل قليل، فالرواية، ربما، تُتيح للقاريء أن يستمتع بالحكي، وبما يجري من أحداث، وهو غير معني بالبناء، لأنّ الرواية لم تكن داخلة في ثقافته أصلاً، فهي واردة. الذين يعتنون بالبناء، وبالجمال في الرواية، هم الباحثون والطلبة، بعكس الشِّعر الذي نُحاسَب عليه مِنْ قِبَل الجميع، لأنّه أساس ثقافتنا العربية، والإنسانية التي بدأت شعراً، مع»ملحمة جلجامش» تحديداً. كما أن حضور الشِّعر، هو حضور الإنسان على الأرض، وهو ما تستفيد منه الرواية، بطريقة أو بأخرى. ولعل أهم الأعمال الروائية، هي تلك التي تجد فيها شعرية في السرد، وفي اختلاق الفضاءات، والأزمنة، وحتى الشخوص والأحداث. > ما هي خصائص التجارب الشعرية الجديدة وهل استطاعت الوسائط الجديدة التأثير فيها؟ > إذا أردنا أن نتحدَّث عن»خصائص»، علينا أولاً أن نتحدث عن الشعر في هذه التجارب. ثمة من هم قادمون بهدوء، ويشتغلون بإنصاتٍ لما يجري حولهم، ويكتبون باحتراز، وهؤلاء أكيد سيعثرون على مشروعاتهم الشعرية الخاصة، وهناك من يسعون للوجود بالقوة، وليس بالفعل، وهؤلاء هم من سمَّيْتُهُم بـ «شعراء الأنابيب» الذي يرغبون في الخروج إلى الوجود قبل النضج، وقبل استكمال الدورة البيولوجية الطبيعية التي لا مفر لكل شاعر منها. اقرأْ سِيَرَ الشعراء، عبر كل العصور، ستجد أنهم تخلَّوْا عن الكثير مما اعْتبرُوه شعراً في فترة ما، لكنهم حين استكملوا تكوينهم البيولوجي، ندموا على هذا الذي هو محسوب عليهم اليوم. محمود درويش، في أكثر من حوار له، قال إنه لو قُدِّر له أن يعيد جمع أعماله لأبقى على القليل منها. وهو عَزَف عن إعادة نشر بعض دواوينه ضمن أعماله الشعرية الكاملة، وهو ما فعله أدونيس الذي تنكَّر لديوانه»قالت لي الأرض. لا بد من وَقْتٍ ووَعْي، ومن عمل وشغل، أو شقاء بالأحرى، قبل الحديث عن خصائص، لأن الخصائص تعني أن هناك مشروعاً، وأن هناك تراكماً نوعياً، لا تراكما كمِّياً فقط، أي الكتابة من أجل الكتابة، والنشر من أجل النشر. في سطور ـ من مواليد 1958 بالبيضاء بدرب السلطان. ـ حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، في موضوع الكتابة في الشعر العربيّ المعاصر. درس، إلى جانب الأدب، التاريخَ القديمَ ببغداد. ـ عضو مُؤسِّس لـ «بيت الشعر» في المغرب. ـ من أعماله الشعرية: «فاكهة الليل» (1994)، «على إثر سماء» (1997)، «ديوان الشعر المغربيّ المعاصر» (بالاشتراك مع الشاعر مصطفى النيسابوري، 1998)، «شجر النوم» (2000)، «نتوءات زرقا»ء (2002)، «حامل المرآة» (2006)، «شهوات العاشق» (2006). ما رُوي عن الرومي ملغوم فأنا اطلَّعْتُ على أهم ما كُتِب في العربية وفي الفرنسية، من أعمال عن الرومي، وعن أعماله، الشعرية والنثرية كاملةً، فوجدتُ أنَّ هناك ألغاماً كثيرة في ما رُوِيَ عنه بشكل متأخِّر، فسعَيْتُ لإخراجه من الأسطورة إلى الواقع، وهذا ما أنا بصدد التحقُّق منه بزيارة قونية، وبالإنصات إلى الناس، وبالوقوف على المصادر والكتابات التي لم أصل إليها. فالشِّعر، اليوم، لم يعُد كلاماً يأتي من فراغ، خصوصاً في ما أسمِّيه بـ»حداثة الكتابة»، فهو عمل Oeuvre والعمل هو نص واحد متواصل، أو كتاب، فيه نُعيد كتابة وجودنا على الأرض بوعي أنطولوجي، وعمل الرومي هذا، هو إنصات لكينونة كائن، اختار النظر إلى الوجود، ليس بما هو موجود، بل بما رأى أنه هو الوجود. تشابه بين الأسطورة والقرآن الأمر أكبر من الأسطورة في عملي الشِّعريّ هذا، لأنني سَعَيْتُ إلى كتابة الأسطورة بوعيٍ معاصر، في علاقتها بالنصوص الدينية التي جاءت بعدها، بما فيها القرآن. فأنت حين تقرأ هذا العمل، ستتساءل عن مصدر التشابه بين هذه الكتب، في كثير من الأمور، بينها، خلق الإنسان من طين، ونفخ روح الإله فيه، وقصة الطوفان، فجلجامش أسبق، والسؤال، هو ما الذي حدث في الطريق، ومن أخذ عن مَنْ، علما أن جلجامش أسبق من حيث الوجود. العمل، كما فكرتُ فيه، وعملتُ عليه لسنواتٍ، هو الكتابة بوعي ملحمي أسطوري، في تقاطع مع ما نحياه اليوم من أساطير في بلاد الرافدين. انظر ماذا يجري في بلاد جلجامش، اليوم، في العراق وفي سوريا، أليس هذا طوفاناً، وثمة آلهة تتحكَّم فيه وتُوجِّهُه، وتعبث بمصائر البشر؟

شعراء الأنابيب يكتبون من أجل الكتابة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

عسكري ينصب على مراكز تجارية

45 مليونا لكرم في عرس بتطوان

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات