ضعف المناعة الأولي وحش يسرق روح أكثر من ابن قبل أن تعرف أسرهم نوع المرض هم أكثر من 500 طفل، يعانون في صمت مرضا نادرا، لم يتعرف عليه آباؤهم إلا بعد أن خطف أرواح أشقائهم، وبعد أن استنزف ممتلكات ونفسية أسرهم، غير أن وزارة الصحة، مازالت لا تجد في هذه المعاناة الأولوية لإحداث مركز يعنى بهم، ويهتم بهذه الفئة من المرضى التي تصل تكلفة علاجها أحيانا إلى أزيد من 4 آلاف درهم شهريا. تكاد دمعته تتحرر من عقالها، وهو يعبر عن الشعور بالذنب، تجاه والدته المسنة، التي تركها في دوار أصوكي بتالوين، ليهاجر إلى الدار البيضاء، حيث يقيم محمد تنجارت، في غرفة بسطح منزل قديم بالمدينة القديمة، مع زوجته وأطفاله الثلاثة، "بلغت أمي من العمر عتيا، وكنت دائما أتمنى أن أرعاها كما رعتني صغيرا، لكن مرض أبنائي وحاجتهم إلى العلاج بمستشفى الهاروشي، جعلتني أتخلى عن أمي لأنقذ حياة أبنائي". معاناة... هي واحدة من القصص الموجعة، التي تحاول احتفالات جمعية هاجر للأطفال المصابين بضعف المناعة الأولي، في اليوم العالمي للأمراض النادرة، الذي يصادف 28 فبراير، أن تخفف من وجعها، وتبدد ملامح القلق من وجوه الأمهات والآباء، لتنتزع منهم ابتسامة وهم يرون صغارهم يلاعبون المهرجين ويرقصون مع الأميرة "فروزن"، في دار الأم بمستشفى الهاروشي بالبيضاء. قصص تنسج خيوطها الأولى بإصابة الأطفال بمرض نادر، يعانيه أزيد من 500 طفل مغربي حسب إحصائيات 2015، ويتطلب من الآباء "رحلة الشتاء والصيف"، ليعرفوا نوعه، ومنهم من يخسر ابنا واثنين وثلاثة، ولا يعرف بالمرض إلا بعد إصابة الرابع، "لم أعلم بإصابة ابنتي، إلا حين بلغت سن العاشرة، إذ عانت وشقيقها البالغ سبع سنوات طويلا من عدة أمراض، وخضعا لعمليات جراحية لاستئصال أورام من عنقهما، وكلفني ذلك كل ما أملك في سبيل فهم السبب، الذي يجعل ابني يعانيان دون علاج فعال"، يقول تنجارت، قبل أن يضيف أنه قرر الهجرة من تالوين إلى البيضاء، ليكون قريبا من المستشفيات العمومية ومن العيادات الخاصة، "اقتنعت أنه لا يوجد أمل لابني معا، في العلاج في مستشفيات الجنوب، فبعد سنوات لم يعرفوا بنوع المرض، وحين أتيت بهما إلى البيضاء، أخبرني طبيب أطفال خاص، أن علي أن أواظب على مدهما بدواء واحد بانتظام". خفت حدة المرض غير أنه في ليلة سوداء، كما يصفها الأب، "نفد الدواء. بحثت عنه في كل الصيدليات، ولم أجد له أثرا، وصادف ذلك يوم جمعة، ليليها السبت والأحد، ولم أترك مكانا وإلا بحثت فيه دون جدوى، حينها ارتفعت حرارة ابني الصغير بشكل أصبح يهدد حياته، لأنقله على عجل إلى المستشفى، غير أنهم لم يتمكنوا من تخفيض الحرارة إلا قليلا، وبدا الأطباء حائرين في السبب، آنذاك قررت أن أعود إلى البيضاء" يحكي تانجرات، الذي سارع إلى السفر وكله أمل أن ينقذ حياة صغيره، "في مستشفى الهاروشي لقي عناية كبيرة، حيث احتفظوا به في الإنعاش، وأجروا له عدة تحاليل ليخبروني أنه يعاني مرضا نادرا هو ضعف المناعة الأولي". أصبح للوحش الذي يفتك بجسدي طفليه اسم، وبذلك أصبح بإمكانه البحث عن علاج، "أخبرت الأطباء أن ابنتي البكر تعاني الأعراض نفسها، ليطالبوني بإحضارها وأخضعت هي الأخرى للتحاليل ذاتها ليتأكد أنها أيضا مصابة بالمرض". دون تردد قرر محمد الهجرة، وترك عمله في الفلاحة بضواحي تالوين، ليكري غرفة في المدينة القديمة، "كان علي أن اختار البقاء مع أمي المسنة أو إنقاذ حياة طفلي، وها أنا هنا"، يرفع الأب يديه، إشارة إلى أنه يتمنى أن يحظى بفرصة للعناية بوالدته المسنة أيضا، غير أن عمله مساعدا لبائع دجاج بأجرة هزيلة، لا تكفيه حتى في أداء سومة كراء الغرفة التي تصل إلى 1000 درهم، وبعض الأدوية لأمراض تنتج عن المرض الأصلي، لا يمكنه ن الحصول على "تساعدنا الجمعية بالحصول على الدواء، إذ كنت مضطرا للحضور إلى المقر أسبوعيا للحصول على حصتي من الدواء المستقدم من الخارج، ثم تحول الموعد إلى مرة في الشهر، غير أن هناك مشاكل في الحصول على الدواء بانتظام". تطلق بشرى من أناسي سراح تنهيدة، سكنت صدرها، وهي تحكي قصة ابنها البكر، الذي اختطفه الموت في سن 13 سنة، وطفلا آخر لم يتجاوز الشهر التاسع، ومازالت تسير في الوجهة المجهولة نفسها، وهي تتابع علاج ابنين آخرين أكبرهما في السابعة والثاني لم يتجاوز سنة. "الأدوية مكلفة جدا، وغير موجود أصلا، لذلك تساعدنا الجمعية، غير أن هناك إكراهات العلاجات الخاصة بهذه الفئة، لأننا بحاجة إلى جناح خاص، إذ هناك أحيانا حاجة إلى تحاليل وصور إشعاعية وغيرها تضطرنا إلى التنقل من جناح إلى آخر، والعملية منهكة، خاصة أن الأمر يتعلق بطفلين"، تحكي الأم. مركز مفقود... بالإضافة إلى غياب وحدة خاصة بمرض ضعف المناعة الأولى، إلى جانب عدم توفر مختبرات مختصة في الكشف عن المرض، تضطر العديد من الأسر ، تقول جمعية هاجر، إلى هدر الكثير من المال، من أجل الكشف عن نوع مرض أطفالها، والذي لا يتم إلا في مختبرات توجد خارج أرض الوطن، غالبا بمختبرات فرنسا. وهنا يتكبد الآباء، تضيف الجمعية، "معاناة مريرة ومجهودات شاقة في رحلة الكشف وتشخيص المرض الذي يلم بفلذات أكبادهم، إذ تضطر الأسر إلى زيارة العديد من الأطباء والقيام بالكثير من التحاليل والفحوصات للوصول فقط لمعرفة المرض، إضافة إلى الأموال الطائلة التي ترافق رحلة الكشف عن المرض والتي تصل إلى ملايين السنتيمات". الحاجة إلى وحدة خاصة مسألة حياة أو موت، حسب البروفيسور أحمد عزيز بوصفيحة، أستاذ طب الأطفال ورئيس جمعية هاجر، إذ قال بما يشبه اللوم "الآن لم يعد هناك وقت للانتظار، الحالات تتضاعف، والأسر تعاني، الجمعية أيضا تواجه إكراهات في الحصول على الأدوية وجلبها من الخارج، في الوقت الذي يمكننا إحداث مركز خاص وصناعة هذه الأدوية بالمغرب"، ويضيف وهو يستعير خطاب الخيانة "تواطأت مع الإدارة بصمتي، اليوم لن نصمت يجب أن نكشف ما تعانيه أسر ضعف المناعة الأولي وما تعانيه أسر الأمراض النادرة بصفة عامة، وهم حوالي مليوني مصاب، رقم لا يمكن للوزارة تجاهله، بل هي إحصائياتها وعليها أن تتدخل بشكل عاجل". أجساد بدون حماية في مرمى الإصابة لأنه وراثي، فإنه يمكن أن يصاب أغلب أطفال أسرة واحدة بالمرض نفسه، مرض تعرفه جمعية هاجر بالمرض الذي يحرم الجسم "من الدفاع عن نفسه خلال تعرضه لأي هجمة من قبل الجراثيم والميكروبات وذلك بسبب ضعف جهاز المناعة، وترتفع نسبة المصابين بالمرض بين مواليد زواج الأقارب رغم أن هذا ليس نتيجة حتمية"، مضيفة أن ضعف المناعة الأولي يشمل 300 مرض، تنقسم إلى اثنين، النوع الأول هو النقص في المضادات، ويظهر خلال السنة الثانية من حياة الطفل، إذ تعدد الإصابات الجرثومية عنده في الأذن والرئة، ويتعدى معدل الإصابة به غالبا خمس مرات في السنة، بما يصاحبها من حمى وآلام شديدة، أما النوع الثاني فيتجلى في نقص وضعف الكريات البيضاء، ويظهر عند الطفل في الأشهر الأولى بعد ولادته، ويكون هذا المرض مصاحبا لمجموعة من الأعراض، منها الإسهال المستمر والتهابات في الفم. وفي ما يخص العلاجات، يقول أب وافد من ضواحي سيدي بنور، إنها متوفرة اليوم في الجمعية، غير أن هذا الباب لا ينفتح للجميع في الوهلة الأولى، "قد يتطلب منك الأمر خسارة ابن أو اثنين، قبل أن تعلم بنوع المرض، وسيكلفك الأمر خسارة عملك أيضا كما هو الشأن بالنسبة إلي" يقول عبد الرزاق، ويضيف أنه بعد مسيرة طويلة من "سير وآجي"، مات ابنه البكر، وعاشت الثانية بفضل مساعدة الجمعية. قبل اكتشاف نوع المرض تكفل محسن بمصاريف علاج مختلف الأمراض التي تلم بالطفلين، "حتى المحسن تقهر، وأنا ما بقيتش خدام، وليت غادي جاي من الدوار للدار البيضاء، ومراتي هي دابا اللي خدامة علينا، حيت أنا خاصني نكون موجود ديما للسفر، باش نجيب الدوا". يضطر عبد الرزاق، الذي لا يفلت فرصة لمعانقة ابنته والابتسام في وجهها وهي ترقص مع صغار الجمعية، إلى السفر أسبوعيا إلى البيضاء للحصول على حصته من الدواء لابنته البالغة من العمر 10 سنوات، "الحمد لله بعدا ولينا تنجيو شي مرات غير من الشهر للشهر، ولكن مللي تيتزاد عليها الحال خاصني نخطفها بالزربة لهنا". استفادته من بطاقة "راميد" ساعد عبد الرزاق كثيرا، "لولاها لكانت الطامة الكبرى، لأني أجري لابنتي التحاليل مجانا وأحيانا يضطر الأطباء إلى الاحتفاظ بها في غرف المستشفى ولا أدفع أي درهم، من قبل كانت المصاريف كثيرة، وتضطرني أحيانا إلى تفويت العلاج بسبب الفقر". كلفة علاج المرض قد تصل، حسب البرفيسور أحمد عزيز بوصفيحة، إلى أزيد من 4500 درهم شهريا، وقد تتجازها في الحالات التي تحتاج إلى عدة حقن شهريا، والتي يصل ثمن الواحدة إلى 1150 درهما، "لهذا السبب نخسر سنويا 54 طفلا، يمكن أن يعيشوا لو توفر لهم العلاج بشكل منتظم". الطامة الكبرى، كما يصفها البروفيسور نفسه، هو أنه رغم هذا الرقم، مازالت الأسر تعاني عدم الاعتراف بالمرض، وبالتالي لا يمكنها الاستفادة من تأمين عليه، وبالتالي ضمن علاج أبنائها بانتظام. حقن مدى الحياة يتم علاج مرض ضعف المناعة الأولي عبر ثلاث وسائل، إذ يتطلب النوع الخفيف، ويمثل 20 في المائة، حسب جمعية هاجر، مضادات حيوية بصفة دائمة تصل تكلفتها إلى 1200 درهم شهريا. أما ضعف المناعة من النوع المتوسط، ويمثل 60 في المائة من الإصابات فيحتاج فيه المريض إلى حقنة مادة "الايمينوغلوبولين" شهريا مدى الحياة، وفي غياب هذه المادة لا يتجاوز معدل الحياة 15 سنة، لكن بإتباعها بصفة منتظمة يمكن للأطفال المصابين أن يعيشوا حياة طبيعية، ويتوفقوا في الاندماج في الحياة. ويصل ثمن الحقنة الواحدة، تقول الجمعية، إلى 1150 درهما ويحتاج المريض حسب وزنه من حقنة واحدة إلى ثمانية حقن شهريا مدى الحياة. أما النوع الخطير من هذا المرض والذي يمثل 20 في المائة فيتميز بإسهال مستمر وتعفن رئوي دائم مما يجعل معدل الحياة لا يتعدى أربع سنوات بدون العلاج الوحيد الذي يتمثل في عملية زراعة النخاع العظمي والتي تتطلب إمكانيات لوجستيكية وطبية مهمة. مطالب عاجلة قالت جمعية هاجر إن المعاناة المادية والمعنوية للأسر تحتم على وزارة الصحة الاهتمام أكثر بهؤلاء المرضى من خلال إنشاء مراكز متخصصة للتشخيص والعلاج، مشددة على أن هذه المراكز يجب أن تكون معزولة عن باقي الأقسام لتفادي أي تأزيم لوضعيتهم الصحية الصعبة أصلا. وطالبت الجمعية كليات الطب بمضاعفة ساعات التدريس المخصصة لهذا المرض لرفع الجهل عنه، إذ أن 50 في المائة من الأطباء يجهلونه، وأزيد من 67 في المائة من أطباء كليات الطب، لذلك تلح في المطالبة بالتعريف بآخر مستجدات المرض مع تنظيم حصص تكوينية بشكل مستمر للأطباء الممارسين، دون إغفال الدور الكبير لوزارة الإعلام وجمعيات المجتمع المدني في التعريف بالمرض والتحسيس به عند المواطنين. إنجاز: ضحى زين الدين وتصوير عبد اللطيف موفيق